لم تخذل الحكومة السودانية توقعات المراقبين باللجوء إلى إجراءات فنية وأمنية عاجلة لضبط أسعار صرف العملة المحلية، التي انفلت عقالها بشكل غير مسبوق.
وعاشت أسواق صرف العملات خلال الأسابيع الماضية حالة من التراجع للجنيه السوداني في السوق الموازية "السوداء"، وتسجل أدنى مستوى لها على الإطلاق.
** انخفاض تاريخي
والخميس الماضي، سجل الجنيه أدنى سعر له مقارنة بالعملة الأجنبية الأكثر تفضيلا بين المتعاملين في السوق السوداء "الدولار الأمريكي"، وقارب سعر الدولار الواحد 28 جنيها، بعد أن كان يراوح في حدود 23 ـ 25 جنيها للدولار قبل أسبوع.
ورافق الانخفاض القياسي في سعر الجنيه طلبا متزايدا على الدولار من جهات "غير معلومة"، فأصاب سوق العملات الموازية بحالة فوضى كادت تشل الحياة في البلاد بشكل كامل.
وعلى الرغم من أن الاقتصاد السوداني ما زال يعاني "صدمة انفصال جنوب السودان"، وذهاب ثلاثة أرباع موارده النفطية التي تمثل 80 في المائة من موارد النقد الأجنبي، فإن السلطات الاقتصادية والمالية لم تعتمد سياسات توفر بدائل حقيقية للخسائر الكبيرة التي ترتبت على الانفضال.
ولم تفلح الإجراءات الحكومية طوال السنوات الست التي أعقبت انفصال الجنوب، في ضبط سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، بل واصل الجنيه الانخفاض بـ "متواليات هندسية".
خلال 2016 تراجع سعر صرف الجنيه السوداني بما يقدر 70 في المائة من قيمته، وأصبح سعره 16 جنيها في السوق السوداء، و6.6 في المنافذ الرسمية.
** إجراءات مشددة
واضطرت الرئاسة السودانية إلى عقد اجتماع عاجل الاثنين الماضي، ترأسه الرئيس عمر البشير بحضور نائبه الأول بكري حسن صالح، ووزير المالية، ومحافظ البنك المركزي، ومدير جهاز الأمن، ورئيس اتحاد المصارف، وعدد آخر من كبار المسؤولين، في محاولة لتلافي انفلات سعر صرف الجنيه.
واتخذ الاجتماع حزمة إجراءات قانونية مشددة لمواجهة تجار العملة في الأسواق غير الرسمية، والمتعاملين بالنقد الأجنبي بشكل عام، بلغت حد توجيه اتهامات بالإرهاب وغسل الأموال لهم.
ووفقا لتصريحات النائب العام عمر محمد أحمد بعد الاجتماع مباشرة، فإن توجيهات مشددة صدرت للنيابات العامة والمتخصصة بتوجيه اتهامات للمتاجرين بالعملات، والعاملين في تهريب الذهب، تحت بنود تخريب الاقتصاد الوطني، والإرهاب وغسل الأموال، وهي بنود في قانون العقوبات تصل عقوبتها القصوى الإعدام.
وشملت الإجراءات أيضا منع الشركات الحكومية من شراء النقد الأجنبي من السوق الموازية، ومراقبة وتنظيم مشتريات الشركات ذات السيولة العالية من النقد الأجنبي.
كذلك، شملت تصحيح نظام الصرف المرن، ومعالجة ووقف تهريب السلع المدعومة لدول الجوار، واتباع سياسات ترشيدية لاستيراد السلع غير الضرورية والكمالية دون تحديدها.
وفي تصريحات إعلامية بالبرلمان، أول أمس الثلاثاء، قال وزير الدولة بوزارة المالية عبد الرحمن ضرار، إن الإجراءات التي اتخذت تهدف لنقل الدولار من السوق الموازية إلى داخل المصارف عن طريق منح وحوافز وإعطاء أفضل الأسعار للسودانيين بالخارج والمصدرين.
وقال ضرار: "الإجراءات التي اتخذتها الحكومة من شأنها توحيد سعر الصرف الرسمي، والسعر بالسوق الموازية".
** تباين آراء
وأدت تلك الإجراءات إلى تباين في آراء المصدرين والمستوردين راوحت بين التأييد والرفض، لكنهم أجمعوا على أهمية إتباع تلك القرارات بأخرى اقتصادية.
وأكد الأمين العام لشعبة مصدري الصمغ العربي أحمد الطيب، في حديث للأناضول، أهمية توجيه اهتمام الحكومة إلى الصادرات باعتبارها إحدى أهم موارد النقد الأجنبي، وذلك عن طريق تحديث البنى التحتية، كالموانئ وناقلات السلع (الشاحنات برا والسفن بحرا).
يشار إلى أن قيمة الصادرت السودانية ارتفعت إلى 2.15 مليار دولار خلال النصف الأول من العام الجاري، مقابل 1.5 مليار دولار للفترة ذاتها من العام السابق.
وفي المقابل يشكك عضو لجنة السياسات بالغرفة القومية للمستوردين "أهلي" الصادق جلال الدين، في قدرة الإجراءات التي اتخذت على تحقيق نتائج على المدى القريب.
وأكد جلال الدين لـ "الأناضول" أن الإجراءات لن تحقق الاستقرار في سعر الصرف في الوقت الراهن، وقال: "هي تحتاج إلى مدى متوسط وطويل لتحقق ما ترمي إليه من أهداف".
وبحسب متابعات "الأناضول"، بلغ سعر الصرف أمس الأربعاء في السوق الموازية 25.80 جنيها للدولار، للمبالغ التي تزيد على 10 آلاف دولار، و22.80 جنيها للمبالغ الأقل.
ودعا جلال الدين إلى تطبيق حزمة سياسات اقتصادية لتحقيق التوازن بين العرض والطلب، يراعى فيها شريحة المستوردين.
واستبعد احتمال أن تؤدي "سياسة ترشيد الاستيراد" التي تتبناها الدولة إلى التقليل من الطلب على النقد الأجنبي، لكونها "لم تؤت ثمارا طوال السنوات الماضية".
بدوره، قال أستاذ الاقتصاد في جامعة الخرطوم محمد الجاك لـ "الأناضول"، إن الإجراءات الجديدة بحاجة إلى إرادة سياسية قوية لتنفيذها، خاصة الجانب المتعلق منها بالمشتريات الحكومية.
وأضاف: "صعب جدا فرض إجراءات أمنية على تجارة العملة بالسودان، لجهة أن النسبة الأكبر منها تنفذ خارج البلاد عبر مكاتب متخصصة في العواصم العربية".
وأصدرت الحكومة السودانية عام 2013 قرارات منعت بموجبها استيراد سلع "غير ضرورية"، ومن بينها الحلويات والأسماك الحية واللحوم المعلبة.
وبلغت واردات السودان العام الماضي 11 مليار دولار، وفقا لإحصاءات صادرة عن وزارة المالية السودانية.