استنهض السودانيون موقفهم المبدئي الرافض للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين من جديد، بعد أن كانت "حماستهم التضامنية قد فترت قليلاً"، بفعل عوامل داخلية وخارجية.
وقدح اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بـ"القدس" عاصمة للدولة الصهيونية، وقراره بنقل سفارة بلاده للمدينة المحتلة، تلك الذاكرة، وأعاد ضخ الدماء في الموقف التقليدي السوداني، المناهض لدولة الاحتلال من جديد بكل أبعاده الدينية والقومية والتحررية.
ذاكرة السودانيين مثقلة، بالمواقف التاريخية التي وقفتها بلادهم ضد الاحتلال، وتحفظ بـ"فخر" أن عاصمتهم أطلق عليها في أوج المقاومة للاحتلال "عاصمة اللاءات الثلاث".
إذ أسهم مؤتمر القمة العربية الرابعة الذي عقد بالخرطوم، في 29 أغسطس/آب 1967، في وقف حالة التيه التي شهدها العالم العربي والإسلامي بعد خسارة الحرب التي عرفت بـ"النكسة".
وعُرفت تلك القمة باسم "اللاءات الثلاثة"، وأخذت الخرطوم الاسم نفسه "عاصمة اللاءات الثلاثة"، واللاءات الثلاثة هي: "لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات مع إسرائيل".
ومنذ تلك "اللاءات" ظلت الخرطوم ترفض تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال، على مستوياتها الرسمية والشعبية، ويذكر السودانيون إلى وقت قريب أن جوازات سفرهم هي الوحيدة التي تنص على صلاحيتها للسفر لكل العالم "ما عدا إسرائيل".
ظن الكثيرون أن تلك المواقف سقطت في بئر النسيان، لكن ما أن صدرت قرارات ترامب بشأن القدس، تكاثفت الجهود الرسمية والشعبية السودانية الرافضة للقرار قادحة زناد المقاومة بدوافع مختلفة، دينية وقومية وسياسية وتحررية.
ونص قرار الرئيس الأمريكي، الأربعاء الماضي، على الاعتراف بالقدس الشرقية والغربية عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى الشطر الشرقي من القدس.
بينما يتمسك الفلسطينيون بالقدس الشرقية عاصمة لدولتهم المأمولة، استنادًا إلى قرارات المجتمع الدولي، التي لا تعترف بكل ما ترتب على احتلال إسرائيل للمدينة، عام 1967، ثم ضمها إليها، عام 1980، وإعلانها القدس الشرقية والغربية "عاصمة موحدة وأبدية" لها.
وأعلنت الحكومة السودانية بمكوناتها المختلفة باكراً رفضها القطعي للقرار، وبلغ رفضها ذروته بإعلان الرئيس عمر البشير، أول أمس الإثنين، قيادة وفد بلاده إلى قمة اسطنبول الإسلامية الطارئة حول القدس المقررة اليوم.
وقبل ذلك، عقد البرلمان السوداني جلسة طارئة، الخميس الماضي، رفض خلالها القرار، بل وطلب من حكومته اتخاذ الإجراءات المناسبة لمقاومة القرار، ودعا الدول الإسلامية إلى فتح سفارات لها في القدس، والاعتراف بها رسمياً عاصمة لدولة فلسطين.
ومثلما رفض الجهاز التشريعي القرار، رفضه مجلس الوزراء السوداني، في جلسة، الأحد الماضي، ودعا إلى التنسيق بين المجموعتين العربية والإسلامية لمناهضته بالسبل المناسبة.
وأكمل الحزب الحاكم "المؤتمر الوطني" الحلقة الحكومية المناوئة لـ"تهويد القدس"، بإعلانه، الإثنين، وعلى لسان رئيس القطاع السياسي جمال محمود، "رفض أي اتجاه لتهويد القدس"، واعتبر الاعتراف الأمريكي مناسبة لإعادة "توحيد الأمة الإسلامية والعربية".
وبادرت الحركة الإسلامية السودانية "الإطار الأيدولوجي لنظام الحكم"، إلى رفض القرار، بل طالبت على لسان أمينها العام صابر محمد الحسن إلى "الجهاد والمقاومة حتى عودة الأراضي الفلسطينية إلى أهلها".
شعبياً، استعادت الخرطوم منذ الجمعة الماضية، شعارات المقاومة القديمة، ونفخت فيها الروح، فاشتعلت شوارعها بآلاف المحتجين الذين دعو لـ"طرد القائم بالأعمال الأمريكي من السودان، ردًا بالمثل".
ونهضت الخرطوم ونسيت "آلامها الذاتية"، واستعادت شعارات حركات التحرر الوطنية والقومية من جديد، وعلت الهتافات واللافتات المناوئة للاستعمار والإمبريالية شوارها وتعلوها.
هتف المحتجون: "بالروح بالدم نفديك يا أقصي"، و"قادمون .. قادمون .. نحن نحن المسلمون"، و"فلسطين عربية"، و"تسقط.. تسقط أمريكا"، و"الموت لأمريكا.. الموت لترامب"، معلنين عن هوياتهم ومنطلقاتهم التي ينظرون من خلالها للقضية الفلسطينية.
وحملوا لافتات كتب عليها: "لا للقرار الأمريكي"، و"لا لتهويد القدس"، و"لا صلح لا اعتراف لا تفاوض"، و"القدس عاصمة فسلطين الأبدية".
قادة الرأي دعوا، أيضا، إلى الاصطفاف مع تركيا ورئيسها رجب طيب أرودغان، باعتبارها قائدة خط المقاومة للقرار الأمريكي بحق القدس.
واعتبر الطلاب رفضهم لتهويد القدس "لا" رابعة، تطلقها الخرطوم إلى جانب اللاءات الثلاث القديمة، ووجهوا الأحد الماضي، مذكرة احتجاج للأمم المتحدة أعلنوا فيها رفضهم للقرار، ورددوا هتافات: "لا لتهويد القدس"، و"الأقصى منار لن ينهار"، و"الموت لترامب"، و"لن نذل ولن نهان.. لن نطيع الأمريكان".
لم تقف الخرطوم وحيدة بين ولايات السودان، فقد ساندتها بمسيرات واحتجاجات ولايات النيل الأزرق (جنوب شرق)، و النيل الأبيض، (جنوب) و كسلا (شرق)، و الشمالية (شمال)، و الجزيرة (وسط)، وولايات دارفور الخمس؛ ما حول البلاد إلى بؤرة رفض لقرار ترامب.
اللافت في احتجاجات الخرطوم، أن الحكومة السودانية ومعارضيها توحدوا على رفض "تهويد القدس"؛ فالحزب الشيوعي السوداني اعتبر في بيان الأربعاء الماضي، موقع باسم متحدثه الرسمي، على سعيد، قرار ترامب "تخبطاً وعنصرية ومعاداة للشعوب".
وقال حزب المؤتمر السوداني المعارض، الثلاثاء الماضي، في بيان مذيل بتوقيع متحدثه الرسمي محمد حسن عربي، "القرار غير منصف، وينال من الجهود الدولية لإقرار الأمن والسلم العالميين"، وأبدى أسفه للقرار ودعا لمراجعته والتراجع عنه، واعتبره انتهاكاً للقانون الدولي.
وتصدى حزب المؤتمر الشعبي، الذي أسسه زعيم الإسلاميين الراحل حسن الترابي للقرار، وقال في بيانات ومخاطبات عديدة إن القرار "إعلان حرب" يمكن أن يحول المنطقة إلى جحيم، وتابع على لسان أمينه السياسي، الأمين عبد الرازق: "هذه مسألة تمس العقيدة، وينبغي علينا الدفاع عنها".
ووصف الزعيم السياسي رئيس حزب الأمة، الصادق المهدي، القرار بأنه "كارثي"، ودعا إلى إبرام معاهدة أمن مشتركة بين الدول العربية وتركيا وإيران، وإلى إعلان عربي إسلامي إفريقي أوروبي وصيني بأن "القدس مدينة محتلة يدان كل من يعترف باحتلالها".
وحددت أحزاب معارضة مثل "البعث العربي، الاشتراكي الناصري، البعث السوداني، حركة الإصلاح الآن، وغيرها" مواقفها القديمة الرافضة للاحتلال، وقال أمين سر البعث، عثمان إبو راس في تصريحات: "فلسطين ما تزال قضية العرب المركزية".
ودعت حركة "الإصلاح الآن" بقيادة الإسلامي غازي صلاح الدين العتباني، في بيان، إلى مواجهة الاعتراف، وحشد الإرادات والتعاون مع أحرار العالم، وعدم الاكتفاء بالشجب.
بيان العتباني حذر من "انهيار محتوم للنظام الدولي على يد مغامرين أمثال ترامب، لا يرون في البشرية سوى ذبائح ينحرونها احتفاءً بصفقاتهم التجارية، بإعطاء مشروعية للكيان الصهيوني".
ما أثاره قرار ترامب في السودان وبلدان إسلامية وعربية وأوروبية وآسيوية وإفريقية، ربما يؤكد المقولة "رب ضارة نافعة"؛ لأنه استنهض من سكون ما قد ظنه الإسرائيليون أنه مات "المقاومة".