ظهر الأحد الماضي، كان "دافيد باري" مؤسس جمعية "إلعاد" الاستيطانية يتفقد عمّاله المنشغلين في بناء مدرج خشبي، داخل ما يُسمّى "مدينة داود"، البؤرة الاستيطانية السياحية التي تديرها الجمعية، جنوب المسجد الأقصى.
في ذات الوقت، وعلى مسافة لا تزيد عن 6 أمتار، كان أحمد محمد محمود سُمرين (35 عاماً) يقف على سطح بيته، متنقلاً ما بين الحديث للإعلاميين وما بين تفقّد أطفاله يلعبون بالقرب منه.
وُلِدَ أحمد وإخوته الستة في هذا البيت الواقع في وادي حلوة، أحد أحياء سلوان في القدس المحتلة.
ومنذ نعومة أظافرهم، وعى الإخوة السبعة على "جيرانهم" في البؤرة الاستيطانية "مدينة داود" يتوسعون في تغولهم الاستيطاني شيئاً فشيئاً.
وبعد أن كبر الأولاد وتزوّجوا، وبعدما قُسّم البيت لثلاث شقق تأوي 13 فرداً من أبناء العائلة، تطاولت يدُ الاستيطان المجاورة لتُهددهم بالطرد من مأواهم الوحيد.
قُدّمت ضدّ عائلة سُمرين في بداية التسعينات دعوى إخلاء من منزلهم، من قبل شركة "هيموناتا" الإسرائيلية، وهي إحدى شركات "الصندوق القومي اليهودي" المعروفة بـ"ككال"، بإدعاء أنها تملك المنزل وأنه يجب عليهم إخلاؤه.
منذ ذلك الحين يخوض أحمد وعائلته صراعات متتالية في المحاكم الإسرائيلية في سبيل تثبيت أقدامهم في منزلهم ومنزل أجدادهم.
آخر تلك المحاكم كان في الأول من يناير الجاري، في جلسة استمرت ما يقارب 7 ساعات للاستماع إلى الشهود، ومن ثم حددت الجلسة التالية في إبريل المقبل.
**ادعاءات إسرائيل
تبدأ القصة تقريباً في العام 1983، عندما توفي موسى عبد الله سُمرين، الذي يكون عمّ جدّه لأحمد.
حينها، ودون إعلام أيّ من أهله وأقاربه، اعتبرت دائرة "حارس أملاك الغائبين" بأن البيت الذي يملكه في وادي حلوة حيث يسكن أحمد وعائلته اليوم، هو "مِلكٌ لغائب"، بإدعاء أن الحاج موسى عاش وتوفي في العاصمة الأردنية "عمان".
تقول شركة "هيموناتا" الإسرائيلية بأنها حصلت على تلك الملكية المدّعاة بموجب صفقة تبادل عقارات بينها وبين سلطة التطوير الإسرائيلية، وهي السلطة المخوّلة بإدارة الأراضي التي تقع تحت إشراف حارس أملاك الغائبين.
أي أن المنزل انتقلت ملكيته المدعاة من حارس أملاك الغائبين إلى سلطة التطوير الإسرائيلية، ومن ثم إلى شركة "هيموناتا" التي ترفع دعوى الإخلاء اليوم، ويساندها في ذلك نشطاء جمعية "إلعاد" الاستيطانية.
وينص قانون أملاك الغائبين الإسرائيلي لعام 1950 على مصادرة عقارات الفلسطينيين الذين "غادروا البلاد إلى الدول المعادية" خلال حرب عام 1948.
ووفقاً له تمت مصادرة آلاف العقارات الفلسطينية في مناطق يافا وحيفا وعكا والجليل.
وبعد حرب عام 1967 طُبق هذا القانون على شرقي القدس، وفق إجراءات مختلفة بعض الشيء.
ولم تعلم العائلة بهذا الاستحواذ على منزلهم إلا في العام 1991، عندما وصلتهم دعوى إخلاء بادعاء أن منزلهم من "أملاك الغائبين".
وبعد مداولات طويلة في المحاكم، نجحت العائلة في استصدار قرار من المحكمة أن موسى سُمرين، المالك الأول للعقار، لا تنطبق عليه تفاصيل قانون أملاك الغائبين، فقد عاش وولد وتوفي ودفن في القدس.
وفي ذلك يشير المحامي المترافع عن العائلة محمد دحلة، إلى أن فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، شهدت حملة شرسة من قبل "حارس أملاك الغائبين" تجاه عقارات المقدسيين، تم فيها الإعلان عن عقارات واسعة بأنها ملكٌ لغائب، استناداً إلى شهادات مشفوعة بالقسم.
يقول دحلة في حديثه لوكالة الأناضول:" اتضح أن تلك الحملة كانت تتم غالباً بشكل عشوائي؛ كانوا يحضرون أي شخص ويطلبون منه الشهادة بأن العقار الفلاني صاحبه غائب خارج البلاد، وفي هذا إشارة إلى عنصرية ووحشية هذا القانون".
**27 سنة من المحاكم
لكن المشوار لم ينتهِ، أو كما يقول أحمد سُمرين في حديثه لوكالة الأناضول:" منذ أن وعيت على الدنيا، ونحن من محكمة إلى أخرى".
بعد القضية الأولى، ادّعت الشركة الإسرائيلية بأنه "على الرغم أن موسى سُمرين ليس غائباً، إلا أن البيت ما زال ملكاً لغائب، لأن أبنائه (موسى) يعيشون في الأردن، وهم ورثته، بالتالي فإن البيت في عداد أملاك الغائبين".
وتأرجحت آمال العائلة في هذه الدورة من المداولات القضائية، ففي المرة الأولى حكمت محكمة الصلح الإسرائيلية لصالحهم، ورفضت المصادقة على اعتبار ورثة موسى سُمرين غائبين، وبالتالي رفضت الإعلان عن العقار كملك لغائب.
إلا أن شركة "هيموناتا" استأنفت إلى المحكمة المركزية، وقامت بالأخيرة بالحكم لصالحها، معتبرة أنه لم يتم إثبات عدم غياب ورثة الحاج موسى، ولم يتم إثبات بيع العقار من طرف الحاج موسى إلى عائلة أحمد، فاعتبرت العقار "ملكاً لغائب".
في نهاية تلك المداولات، لم تنجح العائلة في إثبات ملكيتها للمنزل الذي بناه الأجداد في الخمسينات، والذي تعاقبت فيه الأجيال.
وخلال جلسات المحاكم، تم عرض بعض الأوراق الثبوتية التي تثبت حقّ العائلة في العقار في معمل التشخيص الجنائي الذي ادّعى أن "بصمة موسى سمرين" على الأوراق غير مكتملة، مما يُشكك في سلامة أوراق الملكية.
وفي العام 2005، رفعت شركة "هيموناتا" دعوى ثالثة ضدّ العائلة باعتبار أنهم يسكنون في بيت تملكه وأنهم لا يدفعون أجرته، وطالبتهم فيها بدفع مليون شيقل إسرائيلي (نحو 280 ألف دولار) كبدل استخدام بشكل رجعي، وعلى الرغم من أن المحكمة حكمت وقتها غيابياً لصالح "هيموناتا"، إلا أن القرار تم إلغاؤه لاحقاً بعد استئناف العائلة.
ومنذ العام الماضي، عادت العائلة لأروقة المحاكم في نضالها من أجل إثبات وجودها في العقار.
ويقول المحامي دحلة إنه في محاولة منع إخلاء العائلة:" نستند إلى الادعاء بأن إعلانهم عن الحاج موسى كغائب لم يكن قانونياً، وأن الحاج موسى (سمرين) أعطى الإذن لعائلة ابن أخيه، أي عائلة أحمد باستخدام العقار، وهذا الإذن ما زال ساري المفعول".
وفي انتظار الجلسات اللاحقة للمحكمة، يشير أحمد إلى التوتر الذي تعيشه العائلة بشكل يومي:" أصبح أطفالي يعيشون نفس الحالة التي عشتها وأنا طفل، أن نتخيل أنفسنا أن نلقى إلى الشارع فجأة ونفقد حقنا في بيتنا".
**عيون المستوطنين على العقار
أما عن دور جمعية "إلعاد" الاستيطانية، فعلى الرغم من أن دعوى الإخلاء لم تُقدّم باسمها، ولم تدعي هي ملكيتها للمنزل، إلا أن أعضاء هذه الجمعية ومحامييها حاضرون في جلسات المحاكم، ويتابعون القضية عن كثب.
المحامي زئيف شارف، المعروف بكونه أحد أبرز المحامين الإسرائيليين، هو الذي يترافع عن شركة "هيموناتا" في الدعوى ضدّ عائلة سُمرين، وهو نفسه الذي يتولى المرافعة عن جمعية "إلعاد" في قضايا أخرى أمام المحاكم الإسرائيلية.
ويشير أحمد إلى سور منزله، والمُغطى بقماش يحجب عنه رؤية جانب من تلك الحفريات الأثرية، ويقول:" موقع البيت استراتيجي، عينهم على البيت لتوسيع نشاطاتهم"، متوقعاً أن (إلعاد) تطمح توسيع رقعة الحفريات التي تجريها، أو ربما تستغل المنزل كمبنى آخر لاستقبال السياح وتنظيم أنشطتها.
وتحاول "إلعاد" بسط سيطرتها على المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى، وبالأخص من الجهة الجنوبية، من خلال استهداف العقارات الفلسطينية في حيّ وادي حلوة، وإسكان المستوطنين فيها، وتحويل جزء من الحفريات الأثرية هناك إلى مواقع سياحية تديرها وتروج فيها روايتها الصهيونية.