زخارف تاريخية تجذب العين وموسيقى فولكلورية تداعب الأذن بينما تقطع القدمان خطوات مستمتعة نحو بيت السحيمي الأثري وسط قاهرة المعز.
ها هنا يمتزج التاريخ بالفن، والعمارة العثمانية بالتراث الشعبي المصري، تحيطهم جميعا ذكريات أعيان القوم وحفلاتهم على مدار نحو 4 قرون.
البيت العثماني العتيق، وفق مصادر رسمية، والأكاديمي المصري، جمال عبد الرحيم أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة وأحد المشرفين على ترميمه قبل نحو 17 عاما، يزخر بالتفاصيل الأخاذة.
التاريخ .. مصري
يعود بيت السحيمي إلى عصر مصر العثمانية (1517-1867) وأُنشئ على مرتين، الأولى للجزء القبلي منه عام 1648 ميلادية على يد الشيخ عبد الوهاب الطبلاوي، والثانية للقسم البحري على يد إسماعيل شلبي عام 1796، وكان الرجلان من كبار التجار المصريين، ولم يُعرف لهما دور سياسي آنذاك، فلم يشتهرا تاريخيا بالتالي.
ونُسب اسم البيت إلى آخر من سكنه، محمد أمين السحيمي (تركي الأصل)، شيخ رواق الأتراك بالجامع الأزهر آنذاك، بعد أن ضم القسمين القبلي والبحري في بيت واحد، وتوفى في الثامن من أبريل/نيسان 1928.
ويرجّح جمال عبد الرحيم أستاذ الآثار، في حديثه للأناضول، إن السحيمي سكنه في القرن التاسع عشر، دون تحديد تاريخ بعينه، مؤكدا أن البيت لم يسكنه سوى علية القوم.
واشترت الحكومة المصرية البيت من ورثته في ثلاثينيات القرن الماضي، لقاء مبلغ كبير آنذاك هو 6 آلاف جنيه، (لا يعادل الآن إلا 333 دولارا أمريكيا)، وسجلته كأثر إسلامي، تم ترميمه فيما بعد وافتتاحه عام 2000، ليصبح مزارا أثريا ومحلا ثقافيا للفن والتراثي الشعبي، بحسب عبد الرحيم.
العمارة .. عثمانية
أول ما يلفت النظر بهذا البيت العتيق، بابه الخشبي الضخم المنحوت بطراز إسلامي عريق، يوحي بقطعة من الحضارة تقف خلفه.
وعلى موقعها الإلكتروني الرسمي تقول وزارة الثقافة المصرية إن السحيمي هو البيت الوحيد المتكامل الذي يمثل عمارة القاهرة في العهد العثماني في مصر، وتمتد مساحته على ألفي متر مربع.
وتجولت مراسلة الأناضول بين جدران البيت المزينة بنقوش إسلامية، بينما كانت تحتضن فرقة فنية تتجهز لعرض موسيقي من التراث الشعبي المصري، تتعالي فيه أصوات المزمار، وتتراقص معها الأضواء على الأحجار التي شهدت تاريخا طويلا.
ويصف أستاذ الآثار جمال عبد الرحيم البيت بأنه "كيان معماري عثماني يشهد تصميمه على إعلاء قيمة التقاليد الإسلامية والحفاظ عليها".
ويوضح أن عمارته الفريدة عرفتها البيوت السكنية بالعصر العثماني، وكانت تضع الكثير من القيم في اعتبارها، لاسيما حُرمة النساء داخل البيت.
ويبدو ذلك من المدخل المنكسر بزاوية مائلة، الذي صُمم خصيصا كي لا يكشف من بداخل المنزل، ويعطّل الأغراب عن الدخول لفترة تسمح للنساء في الفناء بالاستتار.
كما يضم غرفة رباعية الأركان مصممة لاحتضان عملية الولادة للنساء تحوي جزءا مغلقا به مقعد لعملية الولادة ذاتها، تحده غرفة أخرى للراحة تقضي بها الأم 40 يوما حتى التعافي، وجزء للملابس يجاوره مكان للخادمة التي ترافق سيدة المنزل بعد الولادة.
وكذلك تطل على الفناء غرف كبيرة، مغلقة بنوافذ خشبية، بها فتحات صغيرة مزخرفة ببراعة ودقة كي لا تُظهر وجوه المكنونات خلفها. سُميت مجموعة الغرف هذه بـ"الحرملك" (مصطلح عثماني أُطلق على مجالس النساء) ويمكن لمن فيها مشاهدة ما يدور بالفناء من حفلات دون التكشف للرجال، احتراما للتقاليد الإسلامية والعربية آنذاك.
وعلى مقربة من "الحرملك"، حمام مخصص للتزين يضم غرفا ثلاثة، صممت بدقة لتكون درجة حرارة إحداها ساخنة، وأخرى معتدلة دافئة، والأخيرة مقاربة لدرجة حرارة الطقس الخارجي، وتتم بداخلها عملية "التدليك".
وعرفت مصر وقتذاك هذا النوع من حمامات التزين، لكنها كانت في الأغلب حمامات عامة ولم يكن معتادا أن تضمها البيوت.
وللرجال غرف منفصلة عن غرف النساء، تقع بالقرب من مدخل البيت وفنائه وحديقته، لاستقبال الزوار، عُرفت بـ "السلاملك" (مصطلح عثماني أُطلق على مجالس الرجال)، وقربها ساحة بها مقاعد خشبية بزخارف إسلامية عُرفت بـ"التختبوش" (مصطلح عثماني أُطلق على مساحة خارجية مسقوفة تُستعمل للجلوس وتقع بين الفناء الداخلي والحديقة).
واعتاد رجال الطبقة الراقية في هذا العصر ومنهم أمين السحيمي، على عقد مجالس العلم وتحفيظ القرآن، وإقامه حفلات الإنشاد وجلسات الطرب والموسيقى في "التختبوش".
كل شيء هنا حُسب بدقة معماريا قبل مئات الأعوام، كما يتبين في مراعاة اختلاف عوامل الطقس، فالبيت مصمم بنظام تهوية خاص اعتمد على حديقة المنزل وفنائه الداخلي المفتوح، وحوائط مرتفعة تعلوها نوافذ تعمل على تهوية المنزل باستمرار، ونافورات بساحة المنزل وبعض الغرف الرئيسية، يتدفق منهن الماء مرطبا وملطفا للحرارة.
وبالسحيمي غرف صيفية تقع شمالي البيت تزورها الرياح، وأخرى شتوية، جنوبه بموقع تزوره الشمس عادة من أجل التدفئة.
وفي حديقة المنزل شجرة سدر باقية صامدة، عمرها من عمر بنائه، ومطحنة للحبوب وصناعة الخبز، وساقية ترفع المياه من الآبار، والثلاثة شهود على تاريخ مرّ من هنا.
أبيات شعر ونثر وآيات من القرآن دونت بخط عربي ذهبي على جدرانه، وأعلى أغلب أبوابه المصنوعة من الخشب المزين والمطعّم بقطع الصدف والأجحار الثمينة، وأرضيات من الرخام الفاخر المرسومة به أشكال هندسية جمالية، تبرز مفاتن الحضارة الإسلامية.
الفن .. للجميع
ومنذ تاريخ افتتاح البيت بعد ترميمه في مطلع القرن الـ21 الميلادي، أحالته مصر إلى مركز للإبداع الفني يتبع وزارة الثقافة، تقدم من خلاله للجميع أنشطة ثقافية وفنية متنوعة وعروض استعراضية من التراث الشعبي القديم.
واعتبرته وزارة الثقافة، كما تذكر بموقعها الإلكتروني، من أجمل آثار القاهرة، ومتحفا مفتوحا لفنون العمارة الإسلامية، وفضّلت أن تقيم بداخله عروضا ثقافية ثابتة من التراث المصري الشعبي وأمسيات شعرية وغنائية واستعراضية، إحياءً لقيمة المنزل الثقافية والتاريخية، ولإتاحة الفرصة لعامة الزوار من مصريين وأجانب للاستمتاع بمزيج مصر العثمانية.