في أحد شوارع القاهرة الإسلامية، وسط العاصمة المصرية، يعود بك التاريخ لحقب سابقة، كانت تشتهر بارتداء الطربوش، بمحل يكاد يكون الوحيد المحافظ على تلك الصناعة.
الطربوش، ذلك الإرث العثماني، الذي ظل رمزاً للمكانة الاجتماعية في مصر، قبل أن يتوارى شيئا فشيئاً، لا يزال على قيد الحياة بفضل 3 زبائن لم يتوقفوا عن طلبه.
الزبائن الثلاثة، وهم بمثابة قوى ناعمة في مصر، يتمثلون في علماء الأزهر الذين يرتدون أحد قبعاته الشهيرة، إلى جانب استخدامه بأعمال فنية، وأخيراً إقبال السائحين عليه كتذكار، وفق أحد صناعه.
**عبق التاريخ
تختلف الروايات حول بداية ظهور "الطربوش" في مصر، فيقال إن بداية صناعته تعود إلى نحو 400 سنة، وأول ظهور له كان في اليونان، وألبانيا، ثم انتقل إلى العرب، خلال الحقبة العثمانية (1516/1867ميلادية)، فأصدر السلطان سليمان القانوني، عدة فرمانات في غرب المنطقة ومشارقها، بتعميمه، كزي بروتوكولي.
وعرفت مصر، صناعة "الطربوش"، في عهد الوالي محمد علي باشا (حكم من 1805 - 1848)، وكان ارتداؤه عادة عثمانية، ثم أصبح مكوناً أساسياً في زي موظفي الحكومة، ويعاقب من لا يلتزم به.
وظل "الطربوش" ﻣﻈﻬﺮﺍً مهماً ﻟﻠﻮﻗﺎﺭ ﻭﺍﻟﻤﻜﺎﻧﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ فى ﻣﺼﺮ، حتى قيام ثورة يوليو/ تموز 1952، حين قرر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (حكم من 1956 - 1970) إلغاء فكرة إلزامية ارتدائه.
وأصبح المصريون أحراراً فيما يرتدونه عقب قرار عبد الناصر، باستثناء العمامة الأزهرية وهي عبارة عن طربوش أُضيفت له قماشة بيضاء والتي يرتديها طلاب وعلماء الأزهر الشريف.
** طربوش الغورية ..خوص وخوج
في وسط القاهرة، وتحديدًا منطقة الغورية، تقع ورشة محمد الطرابيشي، أحد أقدم الورش لصناعة الطرابيش هناك.
عن صناعة الطربوش، يقول أحد من ورثة المهنة عن أجداده، وهو الأربعيني المصري، أحمد الطرابيشي،: "في البداية يتم الحصول على مقاس رأس الشخص، ونتعرف منه على الارتفاع الذي يريده في الطربوش".
ويضيف: "بعد ذلك نأتي بخوص النخيل (السعف) من منطقة رشيد (شمالي مصر)، وبعدها نقوم بكي الخوص في قالب نحاسي خاص بمقاس الطربوش، حيث يوجد أكثر من 10 قوالب، حسب مقاس رأس كل شخص، ثم نضع القالب على النار كي يتم كيها ثم نتركها حتى تبرد".
ووفق أحمد الطرابيشي، يأتي بعد ذلك الصانع بالجوخ (نوع من القماش لونه أحمر) ، ويتم كيه في قالب مقاس رأس الشخص لتأخذ شكل الطربوش".
ويضيف الطرابيشي: "بعدها نقوم بلزق الخوص والجوخ بمادة لاصقة مع كيهم مرة ثانية، ثم نقوم بتبطين الخوص بقماش عن طريق الخياطة وبعدها نضع الزر الحرير (خيوط من الحرير فوق العمامة) الذي يوجد منه أكثر من لون يتم اختياره حسب رغبة الشخص ومهنته".
وعن أسعار الطرابيش، يقول الطرابيشي، إن الأسعار مختلفة، حسب نوع الخوص والجوخ المستخدميين في صناعته، فتبدأ من 20 جنيهًا (نحو دولار واحد)، ويصل سعره في بعض الأحيان 250 جنيهاً (نحو 13 دولاراً).
**مستقبل بيد الفن والأزهر والسياحة
يرفض الخمسيني ناصر عبد الباسط، الذي يعمل بالمهنة منذ أن طفولته، كان عمره 5 سنوات، فكرة انقراض صناعة الطرابيش ببلاده، مؤكدًا أنها ستستمر أولا ببقاء الأزهر الشريف وطلابه بمصر الذين يرتدون أحد قبعاته.
وأكد أن الطربوش المتداول، خلال مرحلة ما قبل عبدالناصر، (1805 :1953)، هو الذي انقرض من على رؤوس الناس، ورغم ذلك يتم بيعه للعاملين بمجال السينما والتليفزيون.
الحاج ناصر أشار إلى أن صانعي الطرابيش، يعتمدون حاليًا على البيع للمقرئين والأئمة والخطباء، كونه يعطي لصاحبه الوقار.
وعن أشكال الطرابيش يقول: "تختلف فيما بينها باختلاف "الزر" (قطعة قماش تتدلى من الطربوش) فكل زر له دلالة معينة، فعمّة المقرئ تكون باللون الأحمر وزر لبني.
ويضيف "هناك طربوش أحمر بزر أسود يرتديه الواعظ و الإمام والداعية والمدرس وشيخ المعهد، ويوجد طربوش خاص بالصوفيين لونه أخضر، بالإضافة إلى طرابيش أخرى بألوان مختلفة للسياح خاصة سُياح دول شرق آسيا".
ويسعى الحاج ناصر إلى توريث المهنة لأولاده، عبر تعليمهم ودعمهم لإتقانها مستقبلًا.
** مجمع أو متحف للطرابيش .. حلم مشروع
وعن اندثار مهنة صانعي الطرابيش وكيفية المحافظة عليها، يقول عبد النبي عبد المطلب، وكيل وزارة الصناعة والتجارة للبحوث الاقتصادية،: إن "الصناعات التي لم يعد عليها طلب، لايمكن الحفاظ عليها إلا من خلال نقلها ضمن المنظومة التراثية".
ويضيف عبد النبي، في تصريحات صحفية، أنه يتعين "عمل نموذج محاكاة لصناعة الطرابيش في كليات الفنون أو المتاحف أو حتى القرى السياحية حتى لاتندثر".
وأشار إلى أنه "من الممكن إقامة مجمع لصناعة الطرابيش في الأماكن ذات العبق التاريخي، مثل النوبة أو أسوان (جنوب)، وأن يتم ذلك تحت رعاية الدولة".
ويلفت إلى أن تجربة القرية الفرعونية الواقعة غربي العاصمة في تقديم تعريف بحياة المصريين القدماء يمكن أن تكون نموذجًا لذلك.