مدخل
كلنا يلاحظ نظرة الكهول للشَّباب، تلك النَّظرة التي لا تحمل إعجابًا ما، فهم برأي بعضهم "شباب آخر زمن"، هم غريبو الأطوار، هم لا يصلحون للأمور الـمُهِمَّة؛ وفي الواقع لو تركنا كلَّ هذه الكلمات جانبًا فإنه لَيُمكِنُنَا أن نرى الشَّباب قد قاموا بأعمال يُحسَدون عليها.
فنحن نرى عبر الزَّمن أنَّ الشَّباب يحملون قلبًا لا يعرف الخوف والتقهقر ويندفعون واقفين في الصُّفوف الأولى دفاعًا عن القضيَّة التي ناضلوا من أجلِها.
إنَّهم يجلسون على الرُّكب لينهلون من الشُّيوخ الكاملين العلم وفيوضات التَّقوى، فهؤلاء الشَّباب بإرشاد العلماء يضعون أساس علم الـمُستقبَل ويُكمِلُون مسيرةَ حمل ميراث العلم، إنهم يُسَطِّرون ملحمة النَّصر والشَّجاعة بأعمالهم البطوليَّة.
لكنَّ كلماتنا هذه هل هي عبارة عن صفٍّ للحروف؟؟
أم أنَّ كلماتنا هذه عبارة عن قصَّة خياليَّة للشَّباب القرَّاء؟؟
ربما لهذا كُلِّهِ سأخطُّ لك بقلمي حكاية إبراهيم النَّابلسي.
نابلس
نابلس مدينةٌ فلسطينيَّةٌ اشتُهرَت بمنابع الماء الصافية وكونها مدينة تجاريَّة، وهي تقع شمال القدس، وبُنِيَت في وادي يقع بين جبل الطُّور وجبال سليميَّة، وتقع غرب نهر الأردن، ومعنى كلمة "نابلس" المدينة الجديدة، ويضيف ياقوت الحموي أسطورة تتعلق بمدينة نابلس فيقول: إنَّ أفعى عظيمَةً تُسَمَّى "لُس" سَكَنَت تلك المدينة الفلسطينية وآذت أهلها فاجتمعوا عليها وقتلوها وانتزعوا نابَها وعلَّقوه على مدخل المدينة ومن ثمَّ صار اسمها "ناب لُس" (معجم البلدان 5/248)، ونحن لا نعرف مدى صحة هذه الأسطورة المنقولة على لسان ياقوت؛ لكنَّنا شهدنا بعد مرِّ السِّنين أفعى جديدة هاجمت أهالي هذه المدينة وهي أفعى الصّهيونيَّة التي تصدَّى لها إبراهيم النَّابلسي على خُطى أجداده الذين ذُكِروا في تلك الأسطورة وقرَّرَ أن ينتزع نابَها.
نابلس: أرضٌ إسلاميَّة
فتح المسلمون نابلس بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه عن طريق الصلح مع أهلها وذلك في عام 636م، ومنذ ذلك التَّاريخ تعرَّضَت نابلس للعديد من الهجمات الصَّليبيَّة واحتلُّوها لفترات مُتَعَدِّدَة ولكنَّها ظلَّت رغم ذلك مدينةً إسلاميَّة، وعلى الرَّغم من قيام العديد من الإضطرابات في نابلس فهي لم تنفك عن كونها أرض عثمانيَّة تابعة للعثمانيِّين إلى تاريخ انسحاب العثمانيِّين منها بتاريخ 1918م، وقد خَرَّجت هذه المدينة العديد من علماء الشَّريعة والأدباء وعُرِفَ كُلٌّ منهم بــ: "النَّابلسي"، وقد بقيَت "نابلس" حتى عام 1918م تُعرَف عند أهل الإسلام بـــــ: "الشَّام الصُّغرَى"، وكان الحُجَّاج ينزلون فيها للاستراحة حتى ذلك التَّاريخ؛ وفي عام 1918م بدأ الاحتلال الإنكليزي من خلال سُفُنِهِ يقيءُ المستوطِنين اليهود على أراضي هذه المدينة.
نابلس: المقاومة النَّاريَّة أو جبل النَّار
في عام 1930م صارت نابلس أهم مركز مقاومة للعرب المسلمين وبالتَّحديد في منطقة الشَّريعة التي صارت قاعدة المجاهدين المناضلين ضد إسرائيل، حتى إنَّ قائد منظمة التحرير الفلسطينيَّة ياسر عرفات خلال نضاله في تموز 1967م اتَّخذَ من نابلس مكانًا له ليوجِّه منها حركة النِّضال.
لم تنحنِ نابلس أبدًا أمام الاحتلال ولم يخلُ يومٌ من أيَّامها من مقاومة، وصارت عام 1987 أهم مراكز الانتفاضة الفلسطينيَّة، ولشدَّة المقاومة التي أبداها النَّابلسيُّون ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي أطلِقَ ليها اسم "جبل النَّار"، هذا الاسم استُخدِمَ مرَّةً أخرى أثناء احتلال إحدى الحملات الصليبيَّة لمدينة نابلس فقام أهالي المدينة بإشعال النَّار على الجبال لإعلان حركة المقاومة ضد الصليبيِّين، ولقد وَرَّث الأجداد والآباء أولادهم ميراثَ الجهاد الـمُقَدَّس.
إبراهيم النابلسي: البطل المجاهد
ولد إبراهيم النَّابلسي في نابلس 13 أكتوبر عام 2003م، وكان أبوه مُحارِبًا ومقاومًا للاحتلال الإسرائيلي وحصل على رتبة المحاربين القدماء رتبة "غازي"، لقد نشأ إبراهيم منذ طفولته على حسِّ المقاومة، لقد عاش إبراهيم تسعة عشرَ عامًا ولكنَّهُ أحرزَ في عمر الشَّباب هذا أهمَّ رتبة في المقاومة بل صار أيقونة لها في مدينة نابلس، عندما يُتلى اسمه على الأسماع ينتشر السرور، حتى إنَّه مرَّةً حضرَ للمشاركة في حفل زفاف إحدى الفلسطينيين فلمَّا تنبَّهَ الحضور بوجوده بينهم تركوا العريسين والتفُّوا حول إبراهيم وحملوه على أكتافهم.
لقد نظَّمَ وشاركَ إبراهيم النَّابلسي عدَّة عمليَّات ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولقد شارك بمواجهات ضد الاحتلال يزيد عددها على سنين عمره، ولقد كان على رأس قائمة المطلوبين للاحتلال الإسرائيلي، لقد كان شجاعًا إلى درجة التَّهوُّر فلقد تعرَّض لتسعة محاولات اغتيال فَقَدَ فيها أقرب أصدقائه، ولكنَّه نجا منها كلَّها، حتى أطلق عليه جيش الاحتلال اسم "القط ذو الأرواح التِّسعة"، هم أطلقوا عليه اسم القط تصغيرًا واحتقارًا له، ولكن في الحقيقة إنَّ إبراهيم كان أسدًا في سبيل تحرير أرضه من الـمُحتَلِّين.
لقد وصل اسم إبراهيم إلى القِمَّة بعد العمليَّة التي قام بها في مقبرة قبر يوسف؛ وهنا يطرح السؤالُ نفسَهُ، ماهي مسألة قبر يوسف؟
اليهود لكي يحصلوا على ذريعة لسلب الأراضي من الفلسطينيِّين فهم يقومون بالعديد من الإفتراءات والأكاذيب التَّاريخيَّة ليتسلَّطوا على تلك الأراضي، فيُلقونَ على بعضِ الأبنيَة والأماكن هالة من القدسيَّة الكاذِبَة، وهكذا يَتَسَنَّى لهم الادِّعاء بأنَّ هذه الأراضي لهُم ومن خلال هذه الإدعاءات الكاذبة يقومون باحتلال هذه الأراضي وبصورةٍ تُعطي انطباعًا بشرعيَّة هذا الاحتلال، وهذا كلُّه بالتَّأكيد عبارة عن تزييف وكذب باطل.
وفي نابلس يوجد قبر يوسف ولكن مَن (يوسف) هذا؟
بالنِّسبة لليهود فهذا القبر هو عبارة عن رُفات النَّبي يوسف الذي أُحضِرَ من مصر إلى هذا المكان، ومع ذلك فإنَّ هذا الكلام يًصادِم الـمُعطَيات التَّاريخيَّة، بل حتى الأرثوذوكس والكاثوليك يعتقدون أنَّ قبر النَّبي يوسف في مصر، ولكن فوق ذلك كلِّه فإنَّ هذا القبر يعود إلى أحد المسلمين وهو عالم من علماء العثمانيّين وأحد مشايخ التَّصوف وهو الشيخ (يوسف الدويقات) والذي أُنشِئَ مقامُهُ في عهد الحكومة العثمانيَّة عام 1904م، وفي محيط هذا المقام كانت تُقام الاحتفالات بالمولد النَّبوي الشَّريف والأذكار.
لكن المستوطنين اليهود وتحت حماية جيش الاحتلال الإسرائيلي، قاموا بالاستيلاء على قبر الشيخ يوسف وقاموا بتنظيم طقوسهم الخاصَّة اليهوديَّة، ولكنَّ النابلسيُّون لم يتحمَّلوا ذلك أبدًا، وقام ابراهيم على رأس مجموعة من أصدقائه بمهاجمة القبر.
ولقد كانت هذه العمليَّة الهجوميَّة التي قام بها إبراهيم جعلت الناس يعيشون أجواء الانتفاضة الفلسطينية، فلقد قُتِل الضابط المسؤول عن الكتيبة العسكريَّة في جيش الاحتلال الإسرائيلي، مِمَّا جعل رئيس الأركان العامَّة في وزارة الدِّفاع الإسرائيليَّة يخرج على التِّلفاز ويُصدِر التَّعليمات بقتل إبراهيم النابلسي فورًا، وبعد هذا قُتِلَ شهيدًا أعز أصدقاء إبراهيم الـمُسمَّى أدهم مبروكة والـمُلَقَّب "شاشان"، وعلى الرَّغمِ من أنَّ إبراهيم كان يُبحَث عنه في كل مكان فق شارك في جنازة صديقه رافعًا سلاحه مؤدِّيًا ليمين الانتقام لصديقه وعيناه قد غرغرت بالدُّموع، ولقد كبُرَ في عيون الشَّعب الفلسطيني هذا الشَّاب النَّابلسي إبراهيم بعد ما أظهره من شجاعةٍ في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وتخويفِهِ وتدويخِه.
على طريق الشَّهادة
هاجم جيش الاحتلال الإسرائيلي وفي يوم الثلاثاء 9 أغسطس 2022م هاجم جيش الاحتلال الإسرائيلي إبراهيم واثنين من أصدقائه في مكانهم الذي وُجِدوا فيه، ولقد كانت آخر رسالة بعث بها القابض على سلاحه إبراهيم إلى أصدقائِه:
"أيُّها الشباب لقد حوصِرتُ الآن ... أنا سوف أكون شهيدًا الآن .... أخبروا أمِّي أنني أحبها كثيرًا .... وصيتي لكم لا تتركوا سلاحكم أبدًا"
أمَّا إسرائيل فقد عَدَّت عمليَّتها هذه انتصارًا عظيمًا بل وشاركتها على البثِّ المباشر في وسائل التواصل والإعلام الرَّسميَّة وفي النِّهاية شرب كأس الشَّهادة كلٌّ من إبراهيم النابلسي وصديقاه إسلام صبُّوح وحسين جمال طه.
أمّا أمُّ النَّابلسي فإنَّ عينيها لم تذرف قطرة واحدة من الدُّموع بل وحمَلَت بنفسها جسد ولدها الـمُضَرَّج بالدِّماء وقالت إنَّ ولدها بطلٌ من أبطال النِّضال والمقاومة.