بالتوازي مع النجاحات التي حققتها تركيا في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، استطاعت أنقرة قطع شوط كبير في طريق إنهاء حروب الوكالة في سوريا، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتخاذ قرارات حساسة مع مطلع العام الحالي.
ومع التحذير الذي أطلقه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم 12 ديسمبر الماضي، حيال الأوضاع القائمة في شرق الفرات ومدينة منبج، اكتسبت المرحلة التي جُمدت من قبل واشنطن في الشمال السوري منذ يوليو الماضي زخما جديدا.
ففي 19 ديسمبر الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب جنود بلاده من الشمال السوري، والبالغ عددهم ألفي جندي، وبعد الإعلان بفترة وجيزة، عزل ترامب وزير دفاعه جيمس ماتيس عندما شعر بأنه يحاول عرقلة الانسحاب.
ومنذ ذلك الحين إلى اليوم، والعالم يبحث عن إجابات لعدد من الأسئلة الهامة حول موعد وكيفية الانسحاب، وهل سيبدأ الانسحاب من منبج أولا؟ وما مصير القواعد الأمريكية والأسلحة التي نقلتها واشنطن إلى تلك المناطق؟
ولعل تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون في إسرائيل، وتصريحات وزير الخارجية مايك بومبيو قبيل بدء جولته الشرق أوسطية، دليل واضح على أن الأمريكيين يفكرون حاليا في كيفية ضمان بقاء إرهابيي "بي كا كا / ب ي د / ي ب ك" إلى جانبهم، أكثر من تفكيرهم بمستقبل جنودهم في سوريا ومناطق نفوذهم هناك.
وتجدر الإشارة إلى وجود جهات داخل أروقة البيت الأبيض، كانت تغطي التعاون الأمريكي مع إرهابيي "بي كا كا / ي ب ك" بقناع مكافحة داعش الإرهابي، إلا أن قرار ترامب الانسحاب من سوريا، وإحالة القضاء على فلول داعش في هذا البلد إلى تركيا، أنهى المسرحية التي كانت تُلعب في واشنطن.
وهنا يخطر إلى الأذهان عدة أسئلة لا بد من الإجابة عنها، ومن هذه الأسئلة: ما هو هدف واشنطن من ضخ كل هذه الكميات من الأسلحة إلى تنظيم "بي كا كا / ب ي د"؟ وما هي غايتها من محاولات شرعنة هذا التنظيم؟
إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لسحب قواتها من سوريا، فلماذا تولي كل هذه الأهمية لبقاء تنظيم "بي كا كا / ي ب ك" في الشمال السوري؟
والإجابة عن هذه الأسئلة تكمن في الرسائل التي بعثها بولتون خلال تواجده في إسرائيل قبل أيام، وفي التصريحات التي صدرت من وزير الخارجية الأمريكي بومبيو قبل بدء جولته الشرق أوسطية التي تشمل 7 دول.
في البداية يجب التذكير بأن جون بولتون لم يلمع بريقه في عهد الرئيس ترامب، فهذا الرجل دخل البيت الأبيض في ثمانينيات القرن الماضي في عهد الرئيس الأسبق رونالد ويلسون ريغان.
وفي فترة رئاسة جورج بوش الابن، ارتقى بولتون مناصب رفيعة في البيت الأبيض، حتى بات قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى منصب المندوب الدائم للولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة، إلا أن صمود الديمقراطيين ورفضهم حال دون ذلك.
ولعل مصدر مساهمات ريغان وبوش في إغناء سجل بولتون المهني، يعود إلى أن الزعيمين كانا يجتمعان في أرضية مشتركة، وهي تغيير النظام الإيراني. وكذلك بومبيو، فقد استهدف إيران عبر تويتر فور وصوله إلى الأردن الذي يعتبر محطته الأولى في جولته بالمنطقة.
وصرح بومبيو أن الضغوط على إيران ستتضاعف في كافة المجالات، والأهم من هذا كله قوله "سننسحب من سوريا، لكن كفاحنا ضد داعش سيستمر، تكتيكاتنا تغيرت، لكن هدفنا لم يتغير".
إذاً ما هو هذا الهدف الذي دفع ببولتون وبومبيو إلى الدفاع عن تنظيم إرهابي، والإدلاء بتصريحات ضد تركيا لا أساس لها؟
وهل وراء تزويد تنظيم "بي كا كا / ي ب ك" بالأسلحة المتطورة، استخدام هذا التنظيم في العملية العسكرية المخطط لها ضد إيران؟
كذلك قالت القيادات المزعومة لتنظيم "بي كا كا" الإرهابية في جبال قنديل بالعراق أثناء تواجد بولتون في إسرائيل، بأنهم لن يشاركوا في أي عملية ضد إيران، في حال لم تحمِهم واشنطن من الضربات التركية.
وعندما نتمعن في الرسائل التي أتت من بولتون وبومبيو وجبال قنديل، نستنتج أن الولايات المتحدة تعتزم تنفيذ انسحاب تكتيكي من شمال سوريا، وليس انسحابا استراتيجيا.
هل من الممكن أن تنسحب الولايات المتحدة من شمالي سوريا مع إبقاء تنظيم "ي ب ك / بي كا كا" الإرهابي والأسلحة المقدمة له هناك؟
يُظهر المشهد خلال اللقاءات التي أجراها مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي جون بولتون، ورئيس الأركان الأمريكي جوزيف دانفورد، والمبعوث الأمريكي الخاص إلى التحالف الدولي لمكافحة تنظيم "داعش" جيمس جيفري، مع مسؤولين أتراك بالعاصمة أنقرة في الآونة الأخيرة، أن تركيا بلغت الحد الذي يمكن الوصول إليه عن طريق الدبلوماسية والمباحثات.
وعقب لقائهما بمسؤولين أمريكيين، شدد المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، ووزير الدفاع التركي خلوصي أكار، على ضرورة بلوغ نقطة تتعدى تسيير دوريات مشتركة في مدينة منبج (شمال سوريا)، مؤكدين وجوب انسحاب التنظيم الإرهابي من المنطقة بشكل كامل، وتسليم إدارتها إلى عناصر محلية.
وبالتزامن مع مغادرة بولتون أنقرة، ولقاء المسؤولين الأتراك ببولتون ودانفورد أمس، قال رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين آلتون، إن "الأمن القومي التركي غير قابل للتفاوض".
وأضاف آلتون في تغريدة على "تويتر"، أن "إظهار الأكراد السوريين والجماعات الإرهابية المدعومة من الولايات المتحدة وكأنهما شيء واحد، هو إهانة للشعب الكردي ولذكائنا".
ولعل المسألة الوحيدة التي نحتاج التفكير فيها، هي أمد السياسة الأمريكية الهادفة إلى عدم إنهاء وجودها العسكري في كامل الأراضي السورية، واستخدام التنظيم الإرهابي ضد إيران، وفرصة بقاء هذه السياسة من عدمها.
ويمكن الفهم من مناورة الانسحاب التكتيكي لواشنطن، أنها تهدف إلى إحداث حالة من الفوضى في مسار "أستانا" بين تركيا وروسيا وإيران، وأن اتضاح مصيرها قد لا يستغرق 4 أشهر كما ورد في وسائل الإعلام.
ويفسر عدم امتلاك وزارة الدفاع الأمريكية أي خطة للانسحاب كما ورد في الأنباء، على أنه مبادرة جديدة لواشنطن تهدف إلى المماطلة في الانسحاب كما هو الحال في مدينة منبج (تنفيذ خريطة طريق)، غير أن أنقرة لا تنوي إظهار الدرجة ذاتها من الصبر هذه المرة.
بعد زيارة بولتون لتركيا، فإن المشهد السائد في أنقرة يتجه إلى الكشف عن نوايا الإدارة الأمريكية في أقرب وقت ممكن، وضمان اتخاذها الخطوات المنتظرة في منبج على وجه السرعة، إلا أن تركيا هي من ستحدد بنفسها الزمان والمكان لمحاربة المنظمات الإرهابية في سوريا.
من المتوقع أن تلعب تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو خلال زيارته إلى مصر في إطار جولته في منطقة الشرق الأوسط، دورا مهما في مسار هذه المرحلة.