منذ أكثر من ثلاثين عاما يعمل يعمل "أحمد بن علي" ورشته الصغيرة لصناعة الأحذية الجلدية يدويا، ولا سيما "البُلْغَة"، في مدينة دوز جنوبي تونس.
"بن علي" يصارع الزمن مع مجموعة من حرفيي السوق العتيقة في المدينة، ضمن جهود لإنعاش مهنتهم، التي تضررت كثيرا من إغراق السوق المحلية بالسلع المستوردة، ولا سيما الأسيوية منها، وانتكاسة قطاع السياحة، تحت وطأة هجمات إرهابية تشنها من آن إلى آخر جماعات، بينها القاعدة وداعش، انطلاقا من جبال غربي تونس.
صناعة الأحذية الجلدية يدويا بدأت في تونس قبل عشرات السنين، بفتح ورشات ومحلات صغيرة لتعليم الشباب هذه الحرفة، التي ورثها بعض الحرفيين عن أرباب عملهم في مدينة طرابلس الليبية، قبل نقلها إلى تونس، وتطويرها.
ناعمة وصلبة
الحرفي التونسي قال للأناضول، التي زارت ورشته، إن "هذه الحرفة اليدوية تعتمد في موادها الأولية على مختلف أنواع جلد الحيوان، ومنها الماعز، والبقر، والخروف، والجمل".
ووفق خطوات تقليدية، تبدأ هذه الصناعة برسم مخطط للحذاء على ورق مقوى، وتحديد المقاييس والأبعاد، ثم تحديد احتياجات التصنيع، وبعدها خياطة الحذاء على مرحلتين، وأخيرا عملية التركيب.
"بن علي" أوضح أن "صناعة الأحذية الجلدية يدويا، مثل البُلْغَة، وغيرها من النعال التقليدية، تستغرق يومين للقطعة الواحدة، ويتراوح ثمنها بين 20 دينار (حوالي 10 دولارات أمريكية) و60 دينارا (حوالي 30 دولارا) للقطعة والواحدة".
والبُلْغَة تشبه الحذاء العادي، لكن من دون خلفيّة، ومنها بُلْغَة صيفية وأخرى شتوية، وعامة تمتاز الأحذية الجلدية المصنوعة يدويا بصلابتها، إذ تمنع تسرب رمال الصحراء إليها، وتقي قدمي من يرتديها من المياه عند هطول المطر، علاوة على جماليتها ونعومتها.
وتابع "بن علي": "وفق الرواية التي بتداولها أجدادنا، فإن الجيوش الصحراوية الفرنسية كانت ترتدي حذاء نعيس، زمن استعمار فرنسا لتونس، وهو حذاء يستعمل لقطع الصحراء، حيث تتلائم خصائصه مع المناخ الصحراي".
سلع مستوردة منافسة
الحرفي التونسي ندد بما ألت إليه حرفته من تراجع كبير، وأضاف: "أسعى مع أصدقائي من حرفيي السوق العتيقة في دوز إلى المحافظة على هذه الحرفة".
لكنه استدرك قائلا: "نواجه صعوبات عديدة منها، تراجع عدد السياح الأجانب، الذي كانوا يقبلون على شراء الأحذية الجلدية المصنوعة يدويا، إضافة إلى اعتماد السوق التونسية على السلع المستوردة".
"بن علي" تابع بقوله: "كنا نعول كثيرا في السنوات الماضية على تدفق السياح الأجانب لترويج بضاعتنا، لكن السياحة لا تزال تعاني ركودا بسبب الوضع الأمني (المتردي) في تونس؛ ما دفعنا إلى الاعتماد على السياحة الداخلية".
ومشددا على صعوبة الوضع الحالي، أضاف: "قبل سنوات كان يعمل خمسة شباب في ورشتي، التي تنتج يوميا بين 5 و6 قطع، لكنني اضطررت إلى إيقافهم عن العمل (الاستغناء عنهم)؛ بسبب تراجع مردودية العمل الذي تأثر بانتكاسة قطاع السياحة" نتيجة للهجمات الارهابية.
أزمة مالية خانقة
عدد السياح اللذين وفدوا إلى تونس، منذ مطلع 2016 وحتى نوفمبر/تشرين ثان الماضي، تجاوز الخمسة ملايين سائح، بنسبة نمو 4.7%، بحسب ما أعلنته وزيرة السياحة التونسية، سلمى اللومي، الشهر الماضي.
هذه الزيادة شملت السياح الجزائريين والروس، فضلا عن التونسيين المقيمين في الخارج، وفق الوزيرة، التي أضافت أن العائدات السياحية في تلك الفترة بلغت 2.1 مليون دينار (حوالي مليون دولار).
والقطاع السياحي في تونس هو أحد أعمدة الاقتصاد، الذي تعول عليه الدولة، ويوفر 400 ألف فرصة عمل، ويمثل حوالي 7% من الناتج المحلي.
ومع عدم عودة التدفق السياحي إلى سابق عهده، فإن الحرفي في صناعة الأحذية الجلدية يدويا، يعاني، بحسب "بن علي"، من "أزمة مالية خانقة، فالسلع المستوردة في السوق الموازية تأثر سلبا على منتجاتنا، وتدفع الحرفي إلى شراء البضاعة (المواد الأولية) الأقل ثمنا، نظرا لتدني مقدرته الشرائية، ولرغبته في منافسة المنتج المستورد".
وتبلغ الطاقة التشغيلية في قطاع الصناعات التقليدية بمختلف حرفها في تونس أكثر من 350 ألف يد عاملة، لكن تلك الطاقة بدأت تتراجع بسبب تدهور الاقتصاد التونسي، الذي لم تتجاوز نسبة نموه نهاية العام الماضي 1%.