على امتداد البصر، تنتشر عشرات النساء وسط الحقل الأخضر بمنطقة "بوحجلة" التونسية (وسط)، يلتقطن حبات (قرون) الفلفل الأحمر القاني، ويلقينها في أكياس صغيرة بين أيديهن.
وعندما يمتلئ الكيس بالفلفل، تحمله هؤلاء النساء ويتوجّهن، بخطى متثاقلة تنوء بحملهن، نحو نقطة تجميع المحصول في طرف الحقل.
** "بوحجلة" والفلفل.. رحلة وجود
تنتج الأراضي الخصبة لمحافظة القيروان (وسط) ألوانا من الغلال والخضراوات، غير أنّ الفلفل اكتسح صدارة الترتيب، وخصوصا الفلفل الأحمر الذي أضحى مركزا تدور حوله العديد من الأنشطة الزراعية والتجارية والتصنيعية وحتى الصناعات التقليدية.
وتتوزع أكبر مساحات إنتاج الفلفل الأحمر وأشهرها في منطقة "بوحجلة" الواقعة على بعد 30 كلم جنوب المحافظة.
وبحلول الخريف من كلّ عام، تحتفي "بوحجلة" على طريقتها الخاصة بالفلفل الأحمر، حيث تقيم مهرجانا لـ "فيلم الأنثرولولوجيا"، نظرا للبعد الثقافي للفلفل والمتصل بالعادات والتقاليد، منها عادة "العولة" (ادّخار مواد غذائية تُعدّ في البيت)، عبر تجفيف الفلفل وحفظه بطريقة تقليدية طبيعية، واستعمال منتوج الفلفل لتحضير أطباق متنوعة بالمطبخ التونسي المعروف بنكهته "اللاذعة".
أما عملية قطف حبات الفلفل، فتبدأ مع شروق الشمس وتنتهي عصر اليوم، غير أنّ يوم العمل بالنسبة للنساء يبدأ قبل ذلك بكثير، وتحديدا منذ الفجر، حيث يجهزن أطفالهن لإرسالهم إلى مدارسهم، ثم يغادرن المنازل على متن شاحنات صغيرة تقل الواحدة منها عشرات النساء دفعة واحدة، بينهن فتيات وعجائز وأحيانا بعض الرجال.
وتقضي النساء يومهن منحنيات الظهور، في حركة شبه آلية لا تعرف الفتور، وهن يقطفن حبات الفلفل، ويجمّعنها في أكياس.
وغير بعيد منهن، يتعالى صوت ألفنه حتى غدا أنيسهن الوحيد في عملهن، وهو "وشوشة" غليان الشاي الذي غالبا ما يوصيهم صاحب الحقل بتفقده وتقليب الجمر المستعر تحته، ليشاركهم -فيما بعد- كأسا من الشاي الساخن.
ورغم جهودهن، إلا أن يوم عملهن الشاق ينتهي بحصولهن على أجرة ضعيفة لا تتجاوز ال 10 دنانير (ما يعادل نحو 4 دولارات). ومع ذلك، تشكّل تلك الأموال القليلة دخلا يؤمّن لهن احتياجات أسرهن، وفق شهادات عدد منهن للأناضول.
** إنتاج وافر وخوف من الأمطار
بنظرات لا تعرف الكلل، يتابع سالم الرمضاني، صاحب الحقل، حركة النساء وهن يجمعن الفلفل، كما يحرص على توزيعهن مجموعات بين خطوط شجيرات الفلفل.
وفي حديث للأناضول، تحدّث الرمضاني عن اهتمام المزارعين بقطاع الفلفل، وتعويلهم على هذا النشاط الذي يعطي إنتاجا وافرا ويشغل عددا كبيرا من اليد العاملة.
ولفت أنه يخصّص كامل أرضه البالغة مساحتها 8 هكتارات (80 ألف متر مربع) لزراعة لفلفل الأحمر.
وتابع: "نزرع مساحات كبيرة والإنتاج وافر، لكن هناك صعوبات كبيرة يواجهها المزارع، منها صعوبات مناخية وأخرى متصلة بأسعار الترويج في ظل طفرة الكميات في زمن قصير".
وأشار أن المزارعين يقومون بتوجيه الإنتاج نحو مصانع التحويل المتمركزة أساسا في محافظة نابل (شمال شرق)، بينما لا يوجد سوى عدد قليل من هذه المصانع بالقيروان.
ولا توجد في منطقة بوحجلة المنتجة للفلفل أي مصانع تحويلية، ما يجعل الإكتفاء ببيع المنتوج إلى تراجع الأسعار وبالتالي أرقام معاملات وأرباح المزارعين، وهو ما قاد، في مرحلة موالية، إلى احتجاجات واسعة بهذا الشأن.
ووفق الرمضاني، تصل كلفة الكيلوغرام الواحد من الفلفل إلى نصف دينار (0.24 دولار)، وتتضمّن مصاريف الماء والكهرباء المستخدم لتشغيل مضخات الآبار، إضافة للبذور والأدوية واليد العاملة والنقل.
أما في نقاط تجميع الفلفل، يتم بيع الكيلوغرام الواحد منه بأقل بقليل مما ذكر، دون أن يحدد المزارع رقما دقيقا في ذلك، لأنه غالبا ما لا يخضع السعر النهائي لقاعدة محددة.
وعلاوة على ما تقكدّم، لفت الرمضاني إلى وجود صعوبات أكخرى تتعلّق بالكوارث الطبيعية، والتي في حال وقوعها، فإن المزارع يفقد محصوله دون الحصول على دعم وتعويض حكومي.
ودعا الرمضاني وزارة الزراعة ببلاده إلى تخصيص اعتمادات مالية للدعم والتعويض، حال وقوع أضرار ناجمة عن التقلبات المناخية، مشدّدا على أنه وبقية المزارعين غالبا ما "يسارعون" بجمع الصابة قبل نزول الأمطار.
** عادات عائلية وتجارة
على طول الطريق الرابطة بين مدينة القيروان ومنطقة بوحجلة، تتراءى عناقيد الفلفل مثل عقود اللؤلؤ، متدلّية على واجهات المحلات التجارية والمنازل، لتستقطب اهتمام المسافرين، في لوحة تترجم اهتمام سكان المنطقة بهذه الزراعة.
فهناك، يتّخذ الفلفل الأحمر أشكالا مختلفة تلبّي مختلف الأذواق؛ حيث يعرض للبيع أحمرا طريا أو مجفّفا تحت أشعة الشمس، أو مطحونا في أكياس وعلب.
وتبْرَعُ نساء بوحجلة في هذا النشاط الذي تحوّل من بعده المنزلي الضيق ليكتس طابعا اقتصاديا واسعا، وفق تقدير جميلة، وهي سيّدة التقتها الأناضول وهي تنتقي حبات الفلفل الطري، تمهيدا لتنظيفه وتجفيفه ثم رحيه.
وتتنوع أصناف معالجة الفلفل بين تحويله، بطريقة تقليدية، إلى معجّن "الهريسة" الشهير في تونس، حيث تضاف إلى دقيق الفلفل البهارات وزيت الزيتون او رحيه جافا ويوضع في علب وأكياس غيرة.
ويتم عرض المنتجات التقليدية للبيع على رصيف الطريق الرابطة بين القيروان ومدن الجنوب التونسي، حيث يعرض التجار وحتى السكان منتوجهم في نقاط بيع متلاصقة، وسط إقبال واسع من طرف المسافرين باتوا يقصدون تلك الطريق خصيصا لابتياع الفلفل الأحمر بكافة أشكاله.
** استثمار وتصدير
تقدّر المساحة الجملية لزراعة الفلفل بالقيروان وحدها بـ 6 آلاف هكتار، من مجموع 20 ألف هكتار مخصصة للخضروات بالمحافظة، وفق ، عبد الجليل العفلي، المندوب المحلي للتنمية الزراعية بالمحافظة (حكومي).
وبخصوص ارتفاع أسعار الفلفل بالأسواق المحلية، أرجع العفلي، في تصريح للأناضول، السبب إلى كثرة الوسطاء، وعدم نقل المنتوج مباشرة إلى الأسواق، ما خلق نوعا من المضاربة والاحتكار بسبب توجيه الفلفل الأحمر، حصريا، للتصنيع.
من جانبه، اعتبر المولدي الرمضاني، رئيس فرع الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري (نقابة المزارعين)، بالقيروان، أنّه "يتم تصنيع كميات كبيرة من معلّبات 'هريسة الفلفل' وتصديرها إلى العديد من البلدان الأوروبية والآسيوية".
كما رأى أنّ "طفرة إنتاج الفلفل في فترة قصيرة تضع المزارع بين رحمة الوسيط والصناعيين، ما يؤدي إلى انخفاض السعر".
وتوجد وحدات صناعية صغيرة لتحويل الفلفل وتعليبه، غير أنّ طاقة استيعابها تظل محدودة مقارنة بكميات الإنتاج، ما يدفع المزارعين إلى نقل منتوجهم إلى محافظات أخرى.
ولفت الرمضاني أنّ "المجال مفتوح للاستثمار الصناعي بمحافظة القيروان، لمضاعفة طاقة التصنيع وتوفير مواطن شغل إضافية".
وبخصوص تعويض الخسائر الناجمة عن العوامل الطبيعية، قال مندوب التنمية الزراعية بالقيروان، إن وزارة الزراعة لا تقدم تعويضا.
وأضاف أنها دعت المزارعين إلى تأمين حقولهم، قبل أن تقدّم مقترحا في موازنة 2018، لإنشاء صندوق لمواجهة الأضرار الناجمة عن العوامل والكوارث الطبيعية، تموّله الصادرات الزراعية للبلاد.