أعاد الفلسطينيون في مدينة القدس في السنوات الأخيرة، الاعتبار لمنطقة باب العامود، أشهر بوابات البلدة القديمة.
وتصاعد دور "باب العامود"، ليصبح حيّزا حيّويّا يتجمعون عنده، وينظمون على أعتابه نشاطاتهم السياسية والاجتماعية، بما يشبه الدور الذي تؤديه مراكز المدن، أو ما يسمى بالدارجة "وسط البلد" .
ومنذ يوم الجمعة الماضي، عاد الاهتمام لتلك المنطقة، حيث يستخدمها الفلسطينيون للاعتصام والتجمع يوميا، احتجاجا على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الأربعاء الماضي، والقاضي باعتراف بلاده رسميا بالقدس (بشقيها الشرقي والغربي) عاصمة لإسرائيل، والبدء بنقل سفارة واشنطن إلى المدينة المحتلة.
وباب العامود، واجهة البلدة القديمة من الجهة الشمالية، وهو بمثابة "مركز المدينة"، منذ سنوات طويلة، فعنده كانت سلطات الاحتلال البريطاني، تُنفذ أحكام الإعدام بحقّ الثوار الفلسطينيين، بحسب مراجع تاريخية.
وعنده أيضا، كان الفلسطينيون يعرضون برتقال مدينة يافا للبيع.
ومنذ أُطلِقَت خطوط المواصلات في مدينة القدس نهاية العهد العثماني، شكّل باب العامود محطة انتهاء السفر، فالحافلات تخرج منه وإليه.
وفي أيامنا هذه، تصاعدت مركزية "باب العامود"، وتكثفت رمزيته منذ العام 2011 تقريبا، عندما غدا حيّزا يحتضن أغلب المظاهرات والاعتصامات التي يدعو لها فلسطينيو القدس، فمع انطلاقة ما عُرف بثورات الربيع العربي نظم الفلسطينيون على درجاته الاعتصامات المتضامنة مع الشعوب العربية.
وشهدت ذات الدرجات مقابل باب العامود، العديد من الاعتصامات تضامنا مع إضرابات المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، أو المظاهرات في ذكرى النكبة أو النكسة، أو تلك التي تخرج تصديا لمسيرات المستوطنين في ذكرى احتلال القدس (عام 1967).
ومنذ العام 2015، قُتل العديد من الفلسطينيين على أعتاب باب العامود، خلال تنفيذهم لعمليات طعنٍ وإطلاق نار على الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، خلال الهبّة الشعبية التي اشتعلت احتجاجا على تصاعد الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، مما دفع الكثير من المقدسيين إلى إطلاق اسم "باب الشهداء" عليه.
إضافة إلى ذلك، فباب العامود هو وجهة المقدسيين الاجتماعية والاقتصادية، فعنده اعتادت مزارعات القدس والضفة الغربية، عرض بضائعهم من الفواكه والخضار.
وإلى حين قريب، كانت البسطات تعرض بضاعتها على طرفي الباب قبل أن تمنعهم البلدية الإسرائيلية في القدس، من ذلك.
كما غدا شائعا لدى أهالي القدس، أن يجتمعوا بأصدقائهم ومعارفهم عنده، فعند السؤال بين الأصدقاء "أين سنجلس؟"، يأتي الجواب تلقائيا في كثير من الأحيان "على درجات باب العامود".
وبالتأسيس على ذلك نُظمت عدة مبادرات شبابية، في ساحته فعاليات ترفيهية وعروض تراثية للأطفال وأهاليهم.
ويؤكد الباحث في تاريخ القدس، محمد مصطفى، على الرمزية السياسية المتصاعدة لباب العامود لدى المقدسيين في السنوات الأخيرة.
وأشار في حوار خاص مع وكالة الأناضول، إلى احتضانه الاحتجاجات الأخيرة خاصة يومي الخميس والجمعة الأخيرين، التي نظمت عنده اعتراضا على الإعلان الأمريكي عن القدس عاصمة لإسرائيل.
يقول مصطفى:" أخذ الاحتلال منا باب الخليل الذي يُسمى كذلك باب يافا، كونه بداية الطريق نحو يافا، وأصبح اليوم منطلقا إلى غرب المدينة ومستوطناتها، فاستعدنا استملاك المكان العام في باب العامود، وحاولنا التأكيد على عروبته".
ويضيف مصطفى إلى أن استعادة الفلسطينيين في القدس للمكان العام، متمثلا في باب العامود أقلق السلطات الإسرائيلية، فأصبح أي تجمع ولو صغير وعشوائي، يتم قمعه من قبل الشرطة.
ويتابع:" في الأيام الأخيرة، بمجرد جلوس طلبة المدارس والشبان على درجات باب العامود وترديدهم الهتافات والأناشيد، تُستدعي كتيبة من القوات الخاصة الإسرائيلية لتقوم بإخلائهم من المنطقة".
ومترافقا مع محاولة قمع التواجد الفلسطيني في باب العامود وتقييده، جدّدت الشرطة خلال العام الحالي والعام الماضي، منظومة المراقبة في محيط المنطقة.
فعدا عن الكاميرات الموجودة مسبقا لمراقبة السكان، أضافت منظومة كاميرات أحدث وأكثر تطورا، وأصبحت كل زوايا المنطقة تحت رقابتها.
كما أعادت الشرطة الإسرائيلية هندسة المكان، فاستحدثت نقطتي مراقبة تنشر عندها عناصرها، الأولى على يمين الباب للداخل منه، والثانية على عتبة المدرج المقابل للباب.
كما عمدت في بداية العام 2016 إلى قصّ الأشجار والأعشاب القريبة من باب العامود لاعتباراتها الأمنية.
**تاريخ باب العامود
يقع باب العامود في الجهة الشمالية لسور البلدة القديمة في القدس، ويُعتبر من الناحية المعمارية والزخرفية من أفخم الأبواب وأكثرها ثراءً من بين أبواب القدس السبعة.
كما أنه أشهر الأبواب وأكثرها استعمالا لكونه المدخل الرئيس للمقدسيين نحو مدينتهم المسوّرة وفي طريقهم للمسجد الأقصى المبارك.
يُشير الباحث يوسف النتشة، وغيره من الباحثين في تاريخ القدس إلى أن تاريخ باب العامود في موقعه الحالي يعود إلى زمن الرومان، فقد بناه الحاكم الروماني هيرودس الأول، ومن ثمّ أعاد بناءه الملك هادريان عام 135 ميلادية، بعد أن دمره الامبراطور الروماني تيتوس.
وقد قيل أن سبب تسميته بباب العامود، وجود عامود مرتفع في ساحته الداخلية، ظلّ فيها حتى فترة الفتوحات الإسلامية.
وظهر هذا العامود في خريطة الفسيفساء التي عُثِر عليها في كنيسة مادبا في الأردن.
أما البناء الحالي لباب العامود فيعود للعهد العثماني، وتحديدا لعهد السلطان سليمان القانوني الذي أمر في القرن السادس عشر الميلادي بإعادة بناء سور القدس، وترميم الأجزاء المهدمة منه.
ولباب العامود حسب بنائه العثماني الأخير واجهتان، الأولى شمالية تقابل الداخل للبلدة القديمة، والثانية جنوبية توّدع الخارج منها.
ومن مميزات الباب المعمارية أن واجهتيه ليستا على محور واحد، بل هما منكسرتان بزاوية قائمة، إذ أن الداخل من باب العامود لا يجد نفسه مباشرة داخل البلدة القديمة، بل عليه أن ينعطف يسارا ومن ثم يمينا حتى يصل إلى أول البلدة القديمة.
ويوضح النتشة في بحثه المنشور في مجلة الدراسات المقدسية، أن هذا الطراز من البناء أتى "تحقيقا لمبدأ عام في عمارة العصور الوسطى العسكرية يهدف إلى إعاقة وكشف المهاجهمين في حال تمكنهم من اقتحام بوابة السور الرئيسية".
وللباب أسماء كثر، منها باب دمشق، وباب نابلس، وباب النصر، وباب القديس اسطفان.
إلا أن الاسم الثابت شعبيا لدى الفلسطينيين هو باب العامود.
وفي ذلك يشير الباحث في تاريخ القدس محمد مصطفى، إلى أن "تناقل المقدسيين جيلا بعد جيل الاسم الأصلي للباب باب العامود، رغم استخدام (باب دمشق) في الكثير من الكتب التاريخية، ثبّته وجعله الأكثر تداولا حتى يومنا هذا".