أعلن مؤتمر القمة الاستثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي، في مدينة إسطنبول التركية (13 ديسمبر/كانون أول الجاري)، مدينة القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين. وهذا تطور ملحوظ.
ورغم أن المسلمين الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعية رحبوا بهذا الإعلان بشدة، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، رد على نحو ساخر:"لسنا منبهرين بكل هذه التصريحات".
لكن لماذا يتجاهل نتنياهو الكثير من القادة المسلمين بكل ثقة ؟
هذا السؤال يتطلب التفكير الجاد. وينبغي للمرء أن يعود إلى سجلات منظمة التعاون الإسلامي (التي تضم 57 دولة) في هذا السياق.
تأسست المنظمة عام 1969، ردا على حريق متعمد للمسجد الأقصى في القدس، التي احتلتها إسرائيل قبل ذلك بعامين.
ومنذ ذلك الحين تبنت المنظمة قرارات عديدة تدين سلوك إسرائيل العدواني وغير القانوني والهمجي.
وخلال السنوات الأولى، عزمت المنظمة على "الجهاد الدبلوماسي" و"الجهاد الاقتصادي" و"الجهاد" في مجالات عديدة أخرى، دعما للنضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير.
والآن، ومع مرور قرابة نصف قرن، باتت المنظمة خجولة جدا حتى في استخدام كلمة "الجهاد" في قراراتها.
لكن دعونا ندرس سجل منظمة التعاون الإسلامي بشأن قضية أو قضيتين متصلتين.
في 1978، عندما شق الرئيس المصري آنذاك أنور السادات (1918-1981) صف منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية وقرر إقامة علاقات دبلوماسية من جانب واحد مع إسرائيل، حذرت المنظمة مصر من خلال اتخاذ قرار نص على ما يلي:
"تدعو المنظمة جميع دول العالم وشعوبها إلى الامتناع عن تقديم أي دعم عسكري أو بشري أو مادي يشجع على استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وتعلن أن استمرار دعم إسرائيل من تلك الدول سيجبر الدول الأعضاء (في المنظمة) على اتخاذ موقف مناسب ضد هذه الدول. وتدين الموقف الذي اتخذته تلك الدول التي تقدم لإسرائيل المساعدة والأسلحة، وترى أن الغرض الحقيقي من غمر إسرائيل بكميات هائلة من وسائل الموت والدمار هو تعزيز إسرائيل كقاعدة للاستعمار والعنصرية في العالم الثالث بشكل عام، وفي إفريقيا وآسيا على وجه الخصوص".
وبعد أن انتهكت مصر موقف المنظمة (التي كانت تسمى آنذاك منظمة المؤتمر الإسلامي) حيال هذه القضية، لم يقتصر الأمر بها على تعليق عضوية مصر في المنظمة، بل اعتمدت أيضا قرارا، في مايو/أيار 1979، أدانت فيه مصر بفعلها الانفرادي. وقالت:
"منظمة المؤتمر الإسلامي تدين اتفاقيات كامب ديفيد، الموقعة في سبتمبر/أيلول 1978، فضلا عن اتفاق واشنطن، الموقع في 26 مارس/آذار 1979، بين حكومة إسرائيل والنظام في مصر، وتعتبرها انحرافا صارخا عن أحكام ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، وانتهاكا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة بشأن قضية فلسطين والأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وترفض جميع نتائجها وآثارها، وتعتبرها لاغية وباطلة وليست ملزمة للعرب والمسلمين، ولا سيما الشعب الفلسطيني".
وفي قرار آخر قررت المنظمة "تعليق عضوية جمهورية مصر العربية لدى منظمة المؤتمر الإسلامي وجميع وكالاتها وهيئاتها إلى أن يتم إزالة الأسباب التي أثارت هذا التعليق".
وبعد عام، لم تعمل المنظمة فحسب على إدانة مصر بلهجة أشد حدة، بل حثت الدول الأعضاء على قطع جميع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع مصر.
ونددت المنظمة بشدة بـ"الحكومة المصرية لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، واعتبرت هذه الخطوة تنصلا من مبادئ الجهاد المقدس، مما أدى في نهاية المطاف إلى أخطار جسيمة وضرر يؤثر على الأمة الإسلامية ومبادئها ومثلها وتراثها وثقافتها وحضارتها".
لكن المثير للاهتمام هو أن المنظمة، خلال أربع سنوات، تراجعت عن موقفها بشأن هذه المسألة، وأعادت مصر إلى أحضانها دون تقديم أي تفسير موثوق.
وأيضا في عام 1978، اعتمدت المنظمة قرارا بعدم السماح بنشر قوات أجنبية في أراضيها لاستخدامها ضد دولة عضو أخرى.
لكن خلال سنوات، انتهكت دول أعضاء هذا الالتزام. وقيل إن أسامة بن لادن (زعيم تنظم القاعدة 1957-2011) سعى إلى إضفاء الشرعية على أنشطته المتطرفة بسبب تلك القرارات.
والسؤال الآن هو: لماذا يسخر نتنياهو من قادة منظمة التعاون الإسلامي وقراراتها ؟ ألم تف المنظمة بوعودها حتى الآن ؟
للإجابة، لا ينبغي للمرء أن يثير تساؤلات حول تصريحات نتنياهو فحسب، بل ينبغي أيضا أن يفكر بجدية في سبب أن حال المنظمة بات مثيرا للشفقة.
لقد عززت المنظمة آمالا للعديد من الأشخاص في العالم الإسلامي، لكنها فشلت في تحقيقها، وفشلت في ترجمة كلماتها إلى أفعال.
كيف حدث ذلك ؟ لأن الدول الأعضاء فقدت اهتمامها تدريجيا بالقضية الفلسطينية، وهي القضية التي أنجبت من رحمها منظمة المؤتمر الإسلامي في المقام الأول.
لكن كيف فقدت الدول الاهتمام بهذه القضية ؟
لنأخذ حال السعودية مثلا. في 1969، كانت السعودية تحت قيادة الملك فيصل بن عبد العزيز (1906-1975) من أقوى مؤيدي منظمة التعاون الإسلامي.
ومرارا وتكرارا، قال الأمين العام الأول للمنظمة، الماليزي تونكو عبد الرحمن (1903-1990)، إنه بدون دعم الملك، لم يكن ممكنا له أن يجعل المؤسسة قادرة على العمل.
وقررت المنظمة أن تقيم مقرها في القدس، لكن منذ أن احتلت إسرائيل تلك الأراضي، تقرر أن يكون مقرها مؤقتا في (مدينة) جدة (السعودية)، بناء على طلب الملك فيصل، إلى أن يتم تحرير القدس من الاحتلال الإسرائيلي.
وحظيت السعودية بدعم العديد من الدول الأعضاء الأخرى بفضل موقفها من القضية الفلسطينية. ومن 1973 إلى 1974، مرورا بحرب أكتوبر/رمضان (1973) والحظر النفطي، قدمت السعودية مساهمة كبيرة للقضية الفلسطينية.
- انعدام الشفافية والمساءلة
لكن تغير الوضع منذ ذلك الحين بشكل كبير.
فقد غزت إسرائيل السياسة الداخلية للعديد من البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، ونجحت في تغيير بعض الأمور في العديد من البلدان.
وقد أمكن ذلك بسبب الافتقار إلى الشفافية والمساءلة في بعض هذه البلدان.
وفي السعودية الآن اتُخذت ترتيبات خاصة لجعل المملكة وجهة زيارة (الرئيس الأمريكي دونالد) ترامب الأولى في الخارج.
ولم تفلح هذه الزيارة في التخفيف من معاناة الفلسطينيين ولا المسلمين في أجزاء أخرى من العالم.
وكان إهمال السعودية للقضية الفلسطينية واضحا في نهجها تجاه مؤتمر القمة الاستثنائية الأخير للمنظمة في إسطنبول.
فقد خفضت السعودية تمثيلها إلى أدنى مستوى. وحتى لم يذكر موقع المنظمة في جدة، الذي يغطي أخبار القمة، اسم الرئيس التركي (رجب طيب أردوغان)، كرئيس القمة.
لذلك يجب إنقاذ المنظمة من السيادة السعودية. ولكن كيف؟ ومن سيقود ؟
- تركيا العضو الأكثر كفاءة
حاليا يبدو أن تركيا هي العضو الأكثر كفاءة لانتشال منظمة التعاون الإسلامي من مستنقعها الحالي، وتوجد أدلة وضعت تركيا على رأس الاهتمام في هذا الشأن.
وقد أعلن وزير الخارجية التركى، مولود جاويش أوغلو، بالفعل خطوات لتنفيذ دعوة إسطنبول (دول العالم) للاعتراف بالقدس عاصمة لفلسطين.
وقال جاويش أوغلو إن "الاعتراف بالدولة الفلسطينية يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة. وسنسعى جاهدين للاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة فلسطين".
وفي أعقاب تصريح وزير الخارجية، قال المتحدث باسم الرئيس التركي إن "القنصلية التركية في القدس الشرقية كانت بالفعل تعمل كسفارة".
ومنذ انسحابه من منتدى دافوس، عام 2009، بعد مشادة مع الرئيس الإسرائيلي آنذاك، شيمون بيريز، اكتسب أردوغان شعبية كبيرة.
واجتذب تحول تركيا، تحت قيادة أردوغان، من بلد مديون دوليا إلى مانح رئيسي للمعونة، انتباه العديد من دول منظمة التعاون الإسلامي.
لذلك، فإن الوقت قد حان لبقية أعضاء المنظمة ليس فقط لدعم المبادرة التركية، ولكن لجعل بلدانهم مكتفية ذاتيا ومستقلة في المقام الأول.
تحظى قضية فلسطين بشعبية كبيرة في دول منظمة التعاون الإسلامي: فهنا في ماليزيا، حيث أعيش، تتنافس الحكومة والمعارضة مع بعضها البعض لإثبات دعمها لفلسطين عبر تنظيم مظاهرات ضد قرار ترامب بشأن القدس (الاعتراف رسميا بالمدينة المحتملة عاصمة لإسرائيل القوة القائمة بالاحتلال).
والخطوة الأولى التي يجب على المنظمة اتخاذها هي نقل مكتبها الرئيسي إلى المكان المقصود أصلا: ألا وهو القدس.
وإذا كانت تركيا قادرة على الحفاظ على مكتب القنصلية في القدس الشرقية، ينبغي على منظمة أيضا أن تكون قادرة على الحفاظ على مكتبها في المدينة، وإن كان بشكل رمزي على الأقل.
وكلما أسرعت المنظمة في احتذاء مثال تركيا، كلما كان ذلك أفضل لمستقبلها.
- الإذلال حافز للتطرف
في السبعينيات (من القرن الماضي)، عززت منظمة المؤتمر (التعاون) الإسلامي الآمال، ولكن خلال العقود التالية توقفت هذه الآمال.
فقد تلى ذلك عمليات إذلال من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين ثم إذلال من جانب قوات (حلف شمال الأطلسي) الناتو في أفغانستان، ومن جانب القوات الأمريكية في العراق.
وكذلك الإذلال من جانب القوات الهندية في كشمير، وقوات الأمن في ميانمار بإقليم أراكان (غرب)، وأحيانا من جانب قوات مسلمة بحق شعوبها المسلمة بدعم من القوات الخارجية.
وهذا هو السبب في حدوث موجة من التطرف في العالم الإسلامي منذ ذلك الحين.
خلاصة الأمر سيكون قادة المنظمة أفضل حالا إذا كانوا صادقين مع القيم القرآنية للكرامة الإنسانية والمساءلة والشفافية وترجمتها إلى عمل.
إن العمل على قرارات مؤتمر القمة الاستثنائية للمنظمة في إسطنبول (بشأن القدس) لن يكون إلا بداية لتلك العملية.