يمكن النظر إلى زيارة نائب وزير الخارجية الأمريكي، جون سوليفان، للسودان من زاويا عديدة، بعضها شائكة تتعلق بالثمن الذي على الخرطوم دفعه لواشنطن، مقابل تطبيع العلاقات وشطب السودان من قائمة الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة راعية للإرهاب.
كان ثقل المسؤولين الأمريكيين الذين يزورون الخرطوم لا يتعدى السفراء، أو مساعدي وزير الخارجية ونواب مديري الدوائر على أحسن تقدير، وبينهم مبعوثون رئاسيون.
ثم رأت واشنطن فجأة أن ترسل الرجل الثاني في خارجيتها إلى الخرطوم، يومي الخميس والجمعة الماضيين، ما يعني أنها إما "خططت جيداً" لرفع مستوى الحوار مع السودان، أو تريد توصيل رسالة "أكثر قوة".
وجاء توقيت الزيارة بعيد رفع العقوبات الاقتصادية والحصار الأمريكي عن السودان بوقت قصير جداً.
ورفعت واشنطن، في 6 أكتوبر/ تشرين أول الماضي، عقوبات اقتصادية وحظر تجاري عن السودان، فرضته منذ 1997، وذلك بفضل التزام الخرطوم بخطة "المسارات الخمسة".
ومن بين هذه المسارات: تعاون الخرطوم مع واشنطن في مكافحة الإرهاب، والعمل على تحقيق السلام في دولة جنوب السودان، والشأن الإنساني، وإيصال المساعدات للمتضررين في مناطق النزاعات.
ومنذ عام 1993 تدرج الولايات المتحدة السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، لاستضافته زعيم تنظيم القاعدة الراحل، أسامة بن لادن (1957-2011)، بين عامي 1991 و1996.
** 3 مطالب واشنطن
أمضى نائب وزير الخارجية الأمريكي يومين في الخرطوم، التقى خلالهما مسؤولين ومنظمات مجتمع المدني وشرائح مجتمعية أخرى، وركز سوليفان بإلحاح لافت على ثلاثة ملفات رئيسة، هي: الحريات الدينية، وحقوق الإنسان، وقطع السودان لعلاقاته مع كوريا الشمالية، التي تناصب واشنطن وحلفائها العداء.
وطالب المسؤول الأمريكي بعقد مؤتمر مائدة مستديرة من أجل الحريات الدينية في السودان، كما طالب الخرطوم بوقف هجماتها على مناطق التمرد، وإعلان وقف إطلاق نار شامل ودائم، ودعا الحركة الشعبية لتحرير السودان – الشمال إلى قبول المقترح الأمريكي الخاص بإيصال المساعدات الإنسانية بواسطة وكالة المعونة الأمريكية.
ويعرف هذا الدبلوماسي الأمريكي العتيد كيف يستثمر المفات كافة، فبتركيزه على قضايا الحريات الدينية وحقوق الإنسان، يسجل نقاط في جبهتين: إرضاء لوبيات (جماعات) الضغط الأمريكية، وممارسة ضغوط على مناطق حساسة بالنسبة للخرطوم.
وسريعاً، وقبل أن يغادر الخرطوم، حصل سوليفان على تعهدات سودانية بقطع العلاقات مع كوريا الشمالية.
وهو ما أكده وزير الخارجية السوداني، إبراهيم غندور، في بادية المباحثات، بقوله إن حكومته لا تقيم تعاوناً تجارياً ولا عسكرياً مع بيونغ يانغ، وإنها ملتزمة بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بشأن كوريا الشمالية.
** ملفات الخرطوم
أما ملفات الجانب السوداني فتنحصر في شطب اسمه من قائمة وزارة الخارجية الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وتطبيع العلاقات بين البلدين، وما قد يترتب عليها، مثل الاستفادة من مبادرة إعفاء الديون، وتلقي المساعدات الأمريكية، وغيرها من ملفات تحرم القائمة السودان منها.
لم يعلن السودان حصوله على وعد ناجز، بل اكتفى من ضيفه بإبداء الاستعداد لاستمرار المحادثات لشطب اسم السودان من لائحة الخارجية الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، دون أن يحدد أجلاً لتلك المحادثات بداية ونهاية.
خلال زيارته للخرطوم، لم يتحدث سوليفان كثيراً عن التعاون مع السودان في "مكافحة الإرهاب" الشائك، بل ونقلت تسريبات للأناضول أنه تهرب من الإجابة عن أسئلة عن الإرهاب، خلال لقاء جمعه مع صحافيين أجانب بالخرطوم.
كما لم يبد المسؤول الأمريكي اهتماماً كبيراً بمدى مواصلة السودان تنفيذ اشتراطات واشنطن السابقة لرفع العقوبات، والمعروفة بـ"خطة المسارات الخمسة".
** رسالة للداخل الأمريكي
ودون أن يسميها بـ"خطة مسارات جديدة"، ركز سوليفان على ملف كفالة الحريات الدينية، وحقوق الإنسان، وحماية التنوع، ليقدمها للوبيات الضغط ومجموعات حقوق الإنسان، التي تتهم إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بالتخلي عن مبدأ أمريكي أساسي، وهو قضايا حقوق الإنسان والحريات الدينية والسياسية.
وهو ما يعتبره الصحفي المهتم بالعلاقات السودانية- الأمريكية، خالد عبد العزيز، في حديث للأناضول، "مجرد رسالة للداخل الأمريكي".
وأضاف عبد العزيز: "لا أعتقد أن ملف الحريات الدينية وحقوق الإنسان يقع في صميم الأجندة الأمريكية في السودان".
وحدد ملفات أمنية واستخبارية وقضائية وسياسية "غير معلنة" تحول دون التطبيع الكامل بين البلدين: "على رأسها تعويضات ضحايا تفجيري السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام (1998)، والمدمرة الأمريكية يو إس إس كول (في اليمن عام 2000)، البالغة 7 مليارات دولار، والتي أدان القضاء الأمريكي حكومة السودان بالضلوع فيها"، وهو ما نفته الخرطوم بشكل قاطع.
واستضاف السودان قادة تنظيم القاعدة، وبينهم أسامة بن لادن، لسنوات، قبل أن يغادروه إلى أفغانستان.
وقطع عبد العزيز باستبعاد تصويت الكونغرس الأمريكي لصالح شطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، "قبل تحقيق تسوية سياسية وقضائية لتعويضات أسر الضحايا، وقبل الحصول على تعهدات بإبعاد من تعتبرهم واشنطن المتشددين والجهاديين من مطابخ اتخاذ القرار السوداني".
واعتبر الصحفي السوداني أن الولايات المتحدة "مهتمة بتغيير تركيبة السلطة في السودان، وإبعاد من تقول عليهم العناصر التي وفرت الحاضنة للأفراد والجماعات المتطرفة، مثل بن لادن و(خليفته أيمن) الظواهري في تسعينيات القرن الماضي".
كما أن واشنطن "مهتمة بأمن (منطقتي) القرن والشمال الإفريقي لوقوعهما في النطاق الحيوي للأمن الأمريكي، لكنها ليست مهتمة بتغيير نظام الحكم، استجابة لطلب المعارضين ولوبيات الحريات الدينية وحقوق الإنسان"، بحسب عبد العزيز.
وحسب ما رشح علناً عن زيارة سوليفان، حصلت واشنطن على أهم ما تريده، وهو إحكام العزلة على كوريا الشمالية، وفي الوقت ذاته طمأنت لوبيات الداخل الحقوقية بأن إدارة ترامب لم تتنازل عن الحريات، دون أن تقدم جزرة كبيرة للخرطوم.
أما الخرطوم فربما يكفيها حالياً رفع مستوى الحوار إلى نائب وزير الخارجية الأمريكي، وربما أراحها الوضع الجديد من تدخلات المبعوثين الرئاسيين، الذين يحشرون أنوفهم في كل شئ، بعد أن كانت واشنطن تعتمد دبلوماسية المبعوث الخاص في التعامل مع السودان.
كما حصلت الخرطوم علناً على وعود بأن "شطبها من القائمة ممكن"، لكن مع وجود مطالب أمريكية عليها التعاطي معها.