يشد آلاف المصلين التونسيين، خلال شهر رمضان، الرحال إلى جامع "عقبة بن نافع" بمحافظة القيروان (وسط)، لآداء صلاة التراويح، وسط أجواء روحانية لافتة.
المسجد، الذي يعود تأسيسه إلى سنة 50 للهجرة على يد عقبة بن نافع، أحد قادة الفتح الإسلامي، يقصده مصلون من مناطق بعيدة داخل المدينة وحتّى من المدن المجاورة.
يستمتع المصلون في المسجد بنفحات روحية لا يشعرون بها في أي جامع آخر، وفق قولهم.
لا يتخلف النساء ولا الشيوخ ولا الأطفال عن هذه الشعيرة الدينية طلباً لمزيد الثواب لما فيها من تعبد وتلاوة للقرآن الكريم وأدعية الجماعة.
تهفو أفئدة أعداد كبيرة من المصلين نحو جامع "عقبة بن نافع" العتيق، يتسابقون من أجل حجز مكان للصلاة بصحن الجامع حيث تقام صلاة التراويح بإمامة كبار الأئمة وقراء القرآن الكريم والمرتلين.
ويخصص الصحن الخارجي للصلاة لاستيعاب أكبر عدد ممكن من المصلين ومراعاة لارتفاع درجات الحرارة صيفاً.
واعتاد بعض الرجال والنساء القدوم إلى جامع "عقبة بن نافع" والمكوث من صلاة المغرب إلى حين صلاة العشاء وقيام اللّيل.
وفي هذه الحالة يجلبون معهم الأطعمة والمشروبات ولا يغادرون الجامع إلا إثر انتهاء الصلوات.
وقبيل سَماع صوت "مدفع الإفطار"، الذي ينطلق من أعلى برج سور المدينة العتيقة بالقيروان، يشارك الشبان والأطفال المشرفين على شؤون الجامع، في عملية فرش السجاد والحصر الاصطناعية على كامل مساحة صحن الجامع المبلطة بمربعات الرخام العتيق، مع ترك ممرات أفقية عمودية تسمح بمرور المصلين.
كما يترك ممر آخر فاصل بين المساحة المخصصة للرجال في مقدمة الصحن، وهو القسم الأكبر، ونحو ربع المساحة للنساء عند المئذنة الشاهقة ذات القاعدة العريضة.
ويتوزع المصلون داخل الأروقة الجانبية في صفوف متوازية تراعي التناسق مع المصلين وسط الصحن.
وفي انتظار موعد صلاة العشاء واكتمال الصفوف يقدم أستاذ مدرس متخصص في علوم الفقه درساً يحظى بمتابعة خاشعة من الحاضرين.
وعادة ما يتذكر الحضور دروس أحد علماء الفقه في تونس عبد الرحمان خليف (1917/ 2006)، الذي اعتاد القيام بتلك المهمة.
يصل الأئمة والقراء تباعاً إلى الجامع، يتشابهون بلبس الجبة التقليدية القيروانية المطرزة في سوق "الجرابة" (مخصصة لحياكة الصوف والحرير وغيرها من المنسوجات) بالمدينة العتيقة.
ويكون ملتقاهم داخل بيت الصلاة في خلوة علنية يناقشون فيها بعض المسائل بالمسجد ويعلو الصوت مناقشاً قضية المقاهي، التي فتحت في محيط الجامع وأصبحت مصدر ازعاج للمصلين.
إلى جانب مناقشة مسائل تنظيمية أخرى بينها ارتفاع الأصوات في الجامع، والتشويش عن المصلين، كما يوزع الأئمة والقرّاء أدوار صلاة التراويح بينهم.
وعقب ذلك ينادي صوت المؤذن معلناً عن حلول موعد صلاة العشاء بصوت جهوري يعظم صداه عبر مكبرات الصوت الثماني عند الشرفات الأربع لصومعة جامع عقبة.
وتقام صلاة العشاء بصفوف متراصة وتتقلص الأماكن أمام المتأخرين.
كما تنسجم الصفوف خلف الإمام مؤدية حركات السجود والركوع والرفع منها والتكبير في خشوع يزيده التناغم خشوعاً وامتلاء روحانياً واستقرارها لشعيرة الصلاة وتلاوة القرآن الكريم والاستماع إليه.
ويقول حمدي بوقرة، الذي يواظب على آداء صلاة التراويح في جامع "عقبة بن نافع"، شأن الآلاف من الكهول والشبان، "أجواء رمضان في القيروان احتفالية تعبق منها نفحات إسلامية بكامل المدينة والشوارع وخاصة بجامع عقبة بن نافع" .
وعقب انتهاء صلاة التراويح (القيام) يتوزع المصلون لقضاء فصول أخرى من أجواء السهرات الرمضانية.
ويقول الشيخ الطيب الغزي، وهو الإمام الأول لجامع "عقبة بن نافع"، للأناضول، صلاة القيام تصلى في الجامع 20 ركعة يتلى فيها بمعدل جزء من القرآن الكريم في الليلة ليختم ليلة الـ27 من رمضان.
ويقول الغزي "أجواء روحانية يقرأ فيها القرآن بأكمله طيلة رمضان في صلاة التراويح ويحضرها عدد كبير من المصلين من أماكن عدّة، من داخل القيروان وخارجها".
ويتابع الغزي أن أعدد المصلين تتضاعف بداية من ليلة النصف من رمضان، ويرتفع العدد في العشر الأواخر منه.
ويضيف أن العائلات من خارج محافظة القيروان تحرص على القدوم لصلاة التراويح والمكوث لأجل صلاة التهجد (في الليالي العشر الأخيرة من رمضان)".
وبحسب الإمام الأول للجامع فإنه "ينتخب لإمامة المصلين في صلاة التراويح ثلة (مجموعة) من حفظة القرآن الكريم، وهم بمنزلة العلماء، (الحبيب العلاني، منذر العلاني، إسماعيل المهداوني)، ويتناوبون ثلاثتهم على المحراب في جو خاشع."
وبمجرد انتهاء الصلاة ينتشر المصلون في الأرض، فتختلف وجهتهم بين العودة إلى المنازل للسهر مع العائلة وارتياد الفضاءات العمومية مثل المنتزهات العائلية والساحات المفتوحة.
وهناك من يقصد المقاهي لمواصلة السهرة الرمضانية، التي عادة ما تمتد حتى مطلع الفجر، بحثاً عن نسمات صيفية والاستعداد لمواجهة يوم حار آخر من الصيام.