كل ما يشغل تفكير أمجد، البالغ من العمر ثمانية أعوام، هو أن يصل به قارب خشبي صغير إلى الضفة الأخرى من نهر الفرات سالما، ولا يلقى مصير اثنين من أقرانه ابتلعهما النهر الهائج قبل أسابيع.
أمجد، ومعه 33 طفلا عراقيا آخرين، لا يجدون أمامهم سبيلا سوى الصعود إلى قوارب صيد صغيرة مزودة بمحركات كهربائية، لعبور نهر الفرات إلى مدرستهم، بعد أن دمر تنظيم داعش، قبل شهور، الجسر الرابط بين منطقة سكنهم في الحويجة، ومركز ناحية البغدادي، حيث توجد مدرستهم، على بعد 90 كيلومترا غرب مدينة الرمادي، مركز محافظة الأنبار (غرب).
ورغم أن هذه القوارب معرضة للانجراف أو حتى الانقلاب في أيام الشتاء العاصفة، إلا أن الأطفال، الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و13 عاما، لا يرتدون سترات نجاة.
تلاميذ في خطر
ثائر عناد، وهو أحد المعلمين في مدرسة "الميثاق"، التي يقصدها الأطفال في ناحية البغدادي، وقال إن "التلاميذ مضطرون لعبور نهر الفرات بالزوارق مرتين كل يوم. لا يوجد حل آخر الآن".
عناد، وفي حديث مع الأناضول، تابع أن "القوارب التي يستقلونها ليست آمنة في فصل الشتاء؛ بسبب شدة جريان مياه النهر، وهو ما يعرض حياة هؤلاء الأطفال للخطر".
عندما اجتاح شمال وغرب العراق، صيف 2014، سيطر داعش على ناحية البغدادي ومناطق عراقية أخرى شاسعة، وأعلن عليها ما أسماها "دولة خلافة" ضمت أيضا أراض يسيطر عليها في سوريا المجاورة.
وردا على تقدم القوات العراقية، دمر مسلحو داعش الجسر الرابط بين ناحية البغدادي ومنطقة الحويجة، التي ينطلق منها الأطفال إلى مدارسهم.
ورغم تمكن القوات العراقية من استعادة السيطرة على المنطقة من قبضة التنظيم منتصف العام الماضي، إلا أن السلطات لم تبادر حتى الآن بإصلاح الجسر وبنى تحتية أخرى دمرتها آلة الحرب.
المعلم العراقي عناد صب جام غضبه على الحكومة المحلية والمحافظ صهيب الراوي قائلا: "لم يقدم لنا شيئا، رغم أن ناحية البغدادي يسكنها حوالي 38 ألف نسمة. لا يعرفوننا إلا في وقت الانتخابات".
مطالب السكان، وبحسب عناد، "بسيطة للغاية، وتتمثل في رفع أنقاض الحرب من شوارع مدينة البغدادي (مركز ناحية البغدادي)، وإصلاح الجسور على نهر الفرات لتحقيق سهولة التنقل، وإنهاء معاناة السكان، وخاصة الأطفال التلاميذ".
الأناضول رافقت عددا من التلاميذ في رحلتهم من الحويجة إلى البغدادي على متن القارب، وبينهم أمجد الذي جلس على مقعد خشبي في الوسط، وهو يتأمل مياه النهر.
بينما كان يتشبث بمجدف خشبي مربوط بالقارب، قال الطفل العراقي للأناضول إن "عبور النهر يوميا يثير الخوف في نفسي وفي أنفس بقية التلاميذ، ولا سيما بعد غرق اثنين من زملائنا".
أمجد، الذي يرتدي سترة صفراء مضادة للماء على أمل تجنب البلل، تابع بقوله: "نذهب إلى المدرسة مبللين ونعود مبللين.. نحن نتمرض (نمرض) يوميا، وماكو دكاترة (لا يوجد أطباء)".
أزمة مالية
وردا على شكاوى أهالي ناحية البغدادي في الأنبار، وغيرها من مناطق العراق، تشكو بدورها الحكومة المركزية في بغداد، ومنذ أكثر من عامين، من ضعف مواردها المالية بسبب تدني إيرادات بيع النفط؛ نتيجة انخفاض أسعاره عالميا، فيما تتزايد في المقابل نفقات الحرب على داعش.
تلك الأزمة المالية تقف حائلا دون إعادة إعمار مرافق الكثير من المناطق التي دمرتها الحرب، وبينها البنى التحتية في البغدادي، وعلى رأسها الجسور.
ووفق مدير الناحية، شرحبيل كهلان العبيدي، فإن "غالبية الجسور على نهر الفرات، في ناحية البغدادي، فجرها داعش لمنع عبور القوات الأمنية إلى المناطق لتحريرها.. داعش دمر أكثر من خمسة جسور استراتيجية في البغدادي".
العبيدي مضى قائلا، في تصريح للأناضول، إن "مدارس ناحية البغدادي نالت أيضا نصيبا من العمليات العسكرية والإرهابية، حيث تضررت جميعها، ثم جرى إعادة تأهيل عدد قليل منها بجهود ذاتية".
وأوضح أن "منطقة الحويجة يربطها مع مركز ناحية البغدادي جسر واحد فقط تم تدميره من قبل داعش، والآن الأهالي والطلاب يستخدمون الزوارق لعبور الفرات من مناطقهم إلى مركز الناحية".
بحزن، أضاف العبيدي أن "طفلين غرقا في النهر خلال عبورهما بواسطة زورق إلى المدرسة في مركز ناحية البغدادي.. على وزارة الإعمار والإسكان إعادة إعمار جميع الجسور المدمرة في البغدادي لتجنب غرق مزيد من التلاميذ".
وغرق هذان الطفلان، نهاية الشهر الماضي، عندما سقطا في مياه النهر؛ جراء تساقط الأمطار وشدة سريان مياه النهر، وهبوب رياح قوية.
هذا الحادث، فضلا عن المعاناة اليومية لسكان ناحية البغدادي في الأنبار، تمثل جزءا يسيرا من التحديات الكبيرة التي لا تزال تنتظر الحكومة العراقية للتخلص من آثار الحرب الدموية المتواصلة منذ أكثر من عامين، والتي يتركز معظمها حاليا في مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى (شمال).
وبنبرات صوت تحمل حزنا وخوفا على مستقبل العراق، ختم المعلم عباد بقوله: "لم نصدق بأننا خلصنا من داعش ليأتي النهر ويخطف منا أطفالنا".