رغم الزلزال الذي أحدثه إعلان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، من السعودية، استقالته، إلا أن الموقف الفرنسي بدا محكوما بغموض يجزم خبراء بأنه سليل صمت تجد باريس نفسها مجبرة على تبنيه لعدة اعتبارات.
** "غموض نابع عن عجز"
في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أربك إعلان الحريري استقالته عبر قناة «العربية» السعودية، المشهد السياسي في بلاده، ليفجر تسونامي من التساؤلات والسيناريوهات وردود الأفعال المتضاربة.
استقالة أرجعها الحريري إلى اعتقاده بوجود «مخطط لاغتياله» وإلى "مساعي إيران لخطف لبنان وفرض الوصاية عليه بعد تمكن حزب الله من فرض أمر واقع بقوة سلاحه".
ومع أن إعلانا مماثلا كان كفيلا بـ «استفزاز» ردود الأفعال لدى الجميع، وخصوصا فرنسا التي يعتبرها كثيرون «عرّاب لبنان» التاريخي، إلا أن المتتبع للخط الزمني للأحداث يكتشف أن باريس التزمت الصمت، ولم تصدر أي تصريحات رسمية إلا قبيل ذهاب ماكرون إلى الرياض، ثم عقب لقاء الأخير بولي العهد السعودي الخميس الماضي بالعاصمة السعودية.
المحلل السياسي الفرنسي، كريستوف فروت، وصف، في حديث للأناضول، موقف فرنسا من أزمة لبنان بـ «الغامض»، معتبرا أن هذا الغموض نابع من «عجزها عن التدخل».
فروت؛ الصحفي والمحلل السياسي بإذاعة "فرنسا - المغرب 2"، قال إن باريس لم تكن أبدا لترغب بأن يقدم الحريري استقالته، ولذلك فهي تنتظر عودته بفارغ الصبر إلى لبنان، ولكنها عاجزة، في الآن نفسه، عن فرض ذلك على السعودية، شريكها الأساسي، كما أنها لا تفكر في خيار التدخل بقوة، وهذا ربما السبب الرئيسي لصمتها.
صمت يعتقد مراقبون أن فرنسا لن تتخلى عنه في موقفها تجاه الوضع في لبنان حتى عقب أول ظهور إعلامي للحريري منذ إعلانه استقالته.
فالمقابلة التي أجراها تلفزيون المستقبل، مساء الأحد، مع الحريري، لن ترفع «الغموض» عن الموقف الفرنسي، بل قد تقلص التصريحات الفرنسية الرسمية إلى أدنى مستوياتها في انتظار ما ستتمخض عنه الأيام المقبلة من أحداث.
كما أن فرنسا تدرك جيدا أن ربط الحريري، البارحة، تراجعه عن استقالته ب «النأي عن النفس عن نزاعات المنطقة» في إشارة إلى حزب الله، وإعلانه عودته "خلال أيام" إلى لبنان، يطرح سيناريوهات عديدة تجبرها على التزام صمت يمنح انطباعا بالحياد.
فبقدر ما كان ظهور الحريري مطمئنا نوعا ما بالنظر إلى الغموض الطاغي على تسلسل الأحداث منذ إعلان الاستقالة، إلا أن تصريحاته تستبطن سيناريوهات قاتمة تعلمها باريس جيدا.
فإن عاد الحريري إلى لبنان وكرر ما قاله في المقابلة، فسيكون بمثابة إعلان الحرب على حزب الله.
وإن تراجع عما قاله، فسيكون لذلك ارتدادات خارجية وخيمة، بينها قطع علاقاته نهائيا مع حليفه السعودية، مع ما يحمله هذا السيناريو من تداعيات سلبية على كافة الأصعدة.
ومن هنا، ترى باريس أن الخيار الأسلم هو التزام الصمت، ومراقبة ما يحدث خصوصا وأن عودة الحريري إلى لبنان ستكون "خلال أيام" كما قال، دون استبعاد فرضية بقائه في الرياض أو الانتقال منها إلى فرنسا التي يحمل جنسيتها.
** "اللاموقف" أفقد باريس موقعها في لبنان
يعتقد فروت أن فرنسا فقدت الكثير من قوتها ومن قدرتها على التأثير في لبنان، خصوصا في ضوء عجزها عن تحديد موقف أو موقع واضح لها مع تحالفات لبنان الداخلية.
فرغم الأهمية المحورية التي توليها باريس لاستقرار لبنان، إلا أن موقفها يظل سجين العديد من الاعتبارات التي تفرضها خصوصية الوضع في لبنان وفي المنطقة العربية عموما.
التونسي هشام دغيم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة السوربون بفرنسا، قال إن مصادر فرنسية نقلت عن ماكرون قوله لولي العهد السعودي خلال لقائهما بالرياض، إن "ما من شيء يمكن أن يكون خطيرا بمقدار المساس باستقرار لبنان".
دغيم اعتبر، في حديث للأناضول، أن فرنسا حريصة على البقاء على الحياد في التعامل مع لبنان سواء خلال أزماته أو في أبرز محطاته السياسية الداخلية.
غير أن حرص باريس على العزف على وتر الحياد مع جميع الأطراف اللبنانية، أفقدها -على ما يبدو- الكثير من وزنها بالبلد الأخير، ما يجعلها اليوم عاجزة تماما عن لعب دور الموفق فيه، وفق فروت.
فروت قال إن هذا "اللاموقف" من شأنه أن يخلق ضعفا في وضعية باريس إزاء بيروت، ولذلك فإن محاولات فرنسا بناء علاقات متوازية مع حزب المستقبل وحزب الله، انتهت فعليا بـ "تجميد" وزنها ودورها بالبلاد.
وتعتبر الخارجية الفرنسية حزب المستقبل طرف الخطاب الرسمي لها، ولكن على المستوى الداخلي للسياسة المحلية اللبنانية، تحاول الدبلوماسية الفرنسية بناء علاقات مباشرة مع حزب الله.
وعن علاقة فرنسا بعائلة الحريري، لفت فروت إلى أنه لطالما كان لفرنسا علاقات مميّزة مع سعد الحريري منذ اغتيال والده رفيق في 2005.
غير أن علاقات سعد بحليفه الخليجي فرضت عليه إضعاف المعارضة التي تدعمها فرنسا، لتجد الأخيرة نفسها على خط التماس بين لبنان والسعودية، عاجزة في الآن نفسه عن التأثير داخليا في لبنان من جهة، وعن التمرّد على خيارات السعودية في المنطقة، بحسب فروت.
وخلص الخبير الفرنسي إلى أن بلاده "تقترف خطأ في تقييم التوازنات بالمنطقة، ومع ذلك، لازالت تصر على هذا الخطأ"
** فرنسا وأزمة لبنان.. صمت وتخبط
تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، أمس الإثنين، التي اعتبر فيها أن "عدم تدخل إيران في شؤون لبنان شرط مهم لاستقرار المنطقة"، لم تخرج الموقف الفرنسي عن حياده كما يبدو في الظاهر، وإنما أكّدت تمسّكه بنفس تمشي إمساك العصا من المنتصف.
فتصريح لودريان يأتي تعقيبا عن إعلان الحريري استقالته بسبب وجود "مساع إيرانية لخطف لبنان وفرض الوصاية عليه"، ما يعني أن الموقف الفرنسي لم يتغيّر نحو الخروج عن حياده المعتاد، وإنما ظل -حتى الآن- ثابتا ومكتفيا بـ "التعقيب" عن الوضع دون التدخّل فيه.
وعموما، فإن الخط الزمني للتصريحات الفرنسية الرسمية منذ استقالة الحريري، يكشف وجود هوة زمنية تفصل بين إعلان الاستقالة في الرابع من هذا الشهر وأول تصريح رسمي فرنسي يأتي من ماكرون في دبي قبيل ذهابه إلى الرياض.
وقال ماكرون في دبي: "هناك اتصالات غير رسمية مع الحريري، لكن ليس هناك طلب لنقله إلى فرنسا ».
وإثر لقاء خاطف لم يتجاوز الساعتين بين ماكرون وولي العهد السعودي، ضمن زيارة مفاجئة غير معلنة بجدول ماكرون الذي حضر، الأربعاء، افتتاح متحف «لوفر أبوظبي»، أصدرت الرئاسة الفرنسية بيانا في وقت متأخر من الخميس الماضي، أي عقب الاجتماع.
وقالت «من المهم الحفاظ على الاستقرار بالمنطقة، ومحاربة الإرهاب وخصوصا العمل من أجل السلام».
والجمعة الماضي، قال لودريان، لإذاعة "أوروبا 1" المحلية، إنه يعتقد أن "رئيس وزراء لبنان المستقيل سعد الحريري لا يخضع للإقامة الجبرية في السعودية، وليس هناك أي قيود على حركته".
غير أنه حين طلب صحفيون من نائب المتحدث باسم الخارجية الفرنسية، ألكسندر جورجيني، توضيح تعليقات لودريان، قال إن "باريس تريد أن يكون الحريري حرا".
وأضاف: "نتمنى أن يحصل سعد الحريري على كامل حريته في التحرك، ويكون قادرا بشكل كامل على القيام بدوره الحيوي في لبنان".