كلما علت أصوات في مصر بالتوجه لخيارات تصالحية، ومعالجة ما يعتبره البعض "انقسامًا مجتمعيًا"، تقف دماء مصريين سالت في أحداث ومواجهات أبرزها في صيف 2013، لتقوّض ذلك الخيار، باعتبار أنّ حقوقهم لم تعد، في مقابل أحاديث رسمية تتجاوز ذلك وتشير إلى أن البلاد تواجه إرهابًا.
واليوم الإثنين، تحلّ الذكرى الرابعة، لفض قوات الأمن المصرية، في 14 أغسطس/آب 2013، اعتصامين في ميداني "رابعة" و"النهضة"، بالقاهرة الكبرى، كانا معترضين على عزل محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيًا، في 3 يوليو/ تموز 2013، ما خلّف مئات القتلى والمصابين وفق تقارير حكومية وحقوقية، وأكثر من 2000 قتيل، وفق بيانات معارضة.
ويستمر تبادل الاتهامات مع نزيف للدماء أيضًا بلا توقف من الجانبين منذ فض "رابعة" وحتى الآن، ما يجعل المواجهات بلا سقف للتسوية، وفق آراء محللين.
وفي أحاديث منفصلة للأناضول، يُحدد وزير عدل سابق، ومحامٍ بالمحكمة الجنائية الدولية وأكاديمي مصري وشقيق أحد الضحايا، 3 محاور رئيسية للخروج من هذا النفق الذي تعيشه البلاد هي: "تغليب الحل السياسي على الأمني، وإقرار قانون للعدالة الانتقالية، وتشكيل لجنة تقصى حقائق حيادية".
ويعزو بعض هؤلاء المتخصصين، استمرار نزيف الدماء، لسببين أحدهما عدم وجود إرادة سياسية لدى النظام في إنهاء الخلاف السياسي، والآخر لتنامي ظاهرة "الإرهاب" ووجود دعم خارجي لها، بينما استنكر أحدهم، ربط الظاهرة التي وجدت في عهود سابقة باعتصام لم تتكشف تفاصيله بعد.
كُلّ يتذكر ضحاياه
تضاربت حصيلة عدد القتلى جراء فض اعتصامي "رابعة"، و"النهضة"، فحسب تقارير حقوقية محلية ودولية، لا يتجاوز العدد الألف بين مدنيين وبعض العناصر الأمنية، بينما أعلن "تحالف دعم الشرعية" المؤيد لمرسي، في بيان عقب أحداث الفض، أن الضحايا تجاوزوا 2600 قتيل في صفوف أنصاره فقط.
ولم تفتح السلطات المصرية أي تحقيق في ضحايا فض الاعتصامين، وفق بيانات حقوقية ومعارضة سابقة، دون إبداء أسباب، بينما فتحت عشرات القضايا بالقاهرة والمحافظات بتهم بينها "القتل" و"العنف" بحق أنصار الاعتصام، وفق قانونيين مطلعين على القضايا تحدثت معهم الأناضول.
عمار نجل القيادي الإخواني محمد البلتاجي، يتذكر شقيقته "أسماء"، إحدى الضحايا البارزات لأحداث فض "رابعة"، قائلا للأناضول: "لم ينل أحد من ذوي الشهداء حقوقه بما في ذلك نحن".
وأشار إلى أن النظام الحالي يتحمل مسؤولية إراقة دمائها، في إشارة إلى أن الرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، كان وزير الدفاع آنذاك.
وأضاف: "نحن نريد عدالة شاملة ومحاسبة للمتورطين، ولن نيأس من السعي لها، لأنها الضمانة الوحيدة لعدم تكرار الجرائم وإيقاف نزيف الدماء".
وتابع: "الدماء تُعمق الأزمة كثيرًا، وتدخل البلاد والشعوب لنفق مظلم من دائرة الدم والانتقام، وتعمق الاستقطاب المجتمعي، والانقسام بين أبناء الوطن الواحد، وفي مصر لم يتوقف نزيف الدماء منذ أولى لحظات الثورة والربيع العربي وحتى الآن".
وخلال السنوات التالية، لفض "رابعة" نشطت تنظيمات مسلحة منها: "ولاية سيناء" و"أجناد مصر"، ومؤخرًا "حسم"، و"لواء الثورة"، ضد عناصر ومقرات الجيش والشرطة؛ لا سيما في شمال سيناء (شمال شرق)، وعدة محافظات، وسط تقديرات غير رسمية تشير لسقوط مئات القتلى في صفوفهم.
ووسط اتهامات رسمية وإعلامية لجماعة "الإخوان المسلمين" بالوقوف وراء هذه الحوادث، تخرج من وقت لآخر تصريحات من أنصار "مرسي"؛ لا سيما قادة الجماعة تؤكد عدم مسؤوليتها عن تلك الدماء، ونعيها لها، وتأكيدها على عدم وجود كيان مسلح تابع لها، وأنها تتبع نهجًا سلميًا في معارضة النظام الحالي.
ودائما ما تحدث السيسي في خطاباته المرتبطة بالتعليق على عمليات إرهابية عن خوض بلاده معركة من أجل البناء والبقاء، وكان أبرزها في خطاب رئاسي في 25 أكتوبر/ تشرين أول 2014، قائلا: "أولاد مصر سقطوا (قتلوا) من أجل أن تبقى مصر، وكان هناك شهداء من قبل وسيكون هناك شهداء مرة ثانية وثالثة لأن مصر تخوض حرب وجود".
وأضاف وقتها أن الدولة كانت تعلم أن هذا سيحدث (أي الإرهاب) بعد 3 يوليو/ تموز (في إشارة للإطاحة بمرسي) وكانت مستعدة لذلك.
مواجهة بلا أفق
القاضي المتقاعد، أحمد مكي، وزير العدل المصري الأسبق، في تقييمه لنزيف الدماء طيلة السنوات الأربعة منذ الفض للآن، قال إنه "ضد إراقة الدماء أيًا كانت بشكل مبدئي لأسباب منها أنها تزيد من العنف بالبلاد، وتدخلها في مواجهة مستمرة بلا أفق لأي تسوية كما نرى".
ومضى قائلا: "على الجميع أن يفهم أن نزيف الدماء لا يتوقف طالما تمسك كل طرف بمواقفه".
أما الأكاديمي المصري، سعيد صادق، المتخصص في علم الاجتماعي السياسي، فيرى أن أزمة نزيف الدماء في مصر لها وجهتا نظر، الأولى مرتبطة بسبيين؛ أحدهما أن الإرهاب مدعوم خارجيًا، والآخر يرجع إلى أن النظام لا يريد حلًا لأن بقاءه قائم على المواجهة.
وعن وجهة النظر الثانية، بخصوص ضحايا "رابعة"، وعدم حصول ذويهم على حقوق، أضاف صادق: "اعتصام رابعة في نظر النظام إرهاب للدولة، فكيف سيعطي حقوقًا لإرهابيين، فالأمر انتهى، مثلما انتهت حقوق من ماتوا منذ ثورة يناير (كانون ثان 2011)"، واستطرد: "ضحايا الثورات قد لا يحصلون أحيانًا على حقوقهم".
وتوقع أن "الأزمة ستطول بين مجموعات كل عام تحيي الذكرى ببكائيات ومهاجمة للنظام، في مقابل نظام يتجاهل كل ذلك ويروج أنه يحارب الإرهاب، ويتلقى دعمًا خارجيًا في سبيل ذلك".
أما الأكاديمي المصري، جهاد عودة، أستاذ العلوم السياسية، فوصف في حديث للأناضول، أحداث "رابعة" و"النهضة" بأنها واقعة تاريخية كثير من أجزائها غير معروف للآن، ورافض الربط المباشر بين تلك الأحداث و"الإرهاب".
ومضى قائلًا: "الإرهاب كان موجودًا من أيام مبارك، وقبل رابعة وبعدها ولا سبب علمي وفني لهذا الربط".
وأشار إلى أن "الإرهاب" مسألة عالمية ومعقدة وتحتاج لتخفيض ولا يمكن وقفها.
الخروج من النفق
أول المخارج من نفق نزيف الدماء المصرية، وفق الوزير أحمد مكي، هو "البحث عن حل سلمي للخلاف السياسي، وإعادة النظر في المواقف لا سيما من الإخوان وأنصارهم، والمؤسسة العسكرية".
وأوضح مكي أن "الحكومة في النهاية في يدها القوة، ولا بد من معالجة أمراضها وتطوير مؤسساتها ولن يحدث هذا بهدم أو بعسكرة الثورة التي تؤدى للقتال وليس البناء".
وفيما يتعلق بالمخرج الثاني، قال الحقوقي المصري البارز، ناصر أمين، وهو محام لدى المحكمة الجنائية الدولية، في حديث للأناضول، إنه "لا مخرج إلا بتطبيق العدالة الانتقالية بكافة محاورها عن طريق كشف الحقيقة، والإصلاح المؤسسي وتعويض الضحايا".
وشدد أنه "بدون ذلك لا يمكن إيجاد تسوية جيدة"، موضحا أن "تطبيق العدالة الانتقالية قد يوقف نزيف الدماء، ويحل جميع المشكلات التي تظهر في أي نزاع".
بدوره، اقترح الأكاديمي المصري، جهاد عودة، أن تنشأ لجنة بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة لبحث أحداث "رابعة" بشكل يكشف أجزاءها غير المعروفة.
وأعرب عن رفضه "عبارة دماء تسيل أو نزيف"، ووصفها بأنها "انطباعات لا تخضع لتحليل دقيق".
فيما تمسك عمار البلتاجي بمخرج ثالث، هو "إيجاد أجواء عدالة وحرية"، قائلا بتفاؤل: "هناك لحظة عدالة آتية بلا شك طال الوقت أم قصر".
وتلزم المادة 214 من الدستور المصري، البرلمان بإصدار قانون للعدالة الانتقالية في أول دورة انعقاد له (انتهي في سبتمبر/أيلول الماضي)، غير أنه وصفه بـ"المستحيل"، وفق تعبير أسامة هيكل، رئيس لجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب.
وأضاف هيكل في مؤتمر صحفي مايو/آيار الماضي: "نص الدستور متضمن عمل مصالحة وطنية والمقصود بها مصالحة الإخوان، وهو أمر لا يمكن تقبله في ظل العنف الممنهج من الإخوان"، وهو اتهام عادة ما نفته الجماعة.